السبت، 27 يناير 2024

مشاعر معدنية

 ارتباط-جماد-حنين-ذكرى-معدنية-صديقة-قهوة-خطو


مشاعر معدنية 



أجفاني تنفرج ببطء ثم تنغلق ببطء وكأنها تمسح الغشاوة عن ملتحمة عيني المُغبشة بدموع مخنوقة انعكست فيها خيوط قهوتي السوداء التي تركت آثارها في قعر فنجاني الأبيض ...

 تأمّلتُ تلك الخطوط السوداء طويلا وهي تنحني وتنثني وتتلوّى في داخل الفنجان راسمة أنماطا وأشكالا أتوهمها ما أشاء، ترسم ضعفي ...ترسم قوتي ...ترسم حزني وفرحي ...تتفنن برسم رغباتي ثم خيبة أملي ....

أغلق الجفون مرة أخرى ببطء إغلاقة طويلة وكأن الأهداب تكنس الديمة المنهمرة إلى قناة الدمع في الزاوية وتجبرها على العودة إلى مجراها.... أتساءل:

لمَ نرتبط بالجماد كارتباطنا بالأحياء؟!

لمَ نجد صعوبة في التخلي عن أشيائنا؟!

لمَ نحزن عندما نفارق أرضا أو منزلا؟!

أ لأنّ دماغنا يربط المشاعر مع الأشياء المادية بطريقة الذكرى والحنين؟!

سأسرق الوقت وسأحكي لنفسي ولك تلك القصة عن صغيرة اشتريتها صدفة، في الواقع كانت صغيرة الحجم، عتيقة العمر، بسيطة جدا وأصيلة جدا ومعدنية جدا ...

سرنا أنا وهي ساعات في كل يوم ملتحمين معا، نقطع الدروب معا، نقتحم السراب على الإسفلت، و تلفحنا رياح الصيف والشتاء، وتبللنا قطرات الندى في باكورة الصباح، يرشقنا المطر وتحرقنا أشعة الشمس، تداعبنا انكسارات الشمس الغاربة وهي تنسلّ متعبة خلف الجبال الباسقة ثم يسدل علينا الليل وشاحه الأسود الموشى بنجوم لامعة، نصغي لأنغام الموسيقا الصاخبة تارة والهادئة تارة، وقد التحمت أصابعي مع مقودها المدّور وأزرارها وإشاراتها.

  كانت تصغي لي دون أن تحاكمني ودون أن تقاطعني، حضنت  دمعتي وابتسامتي وسري، استوعبت هدوئي وغضبي، وثقت بي تلك الصغيرة، وكانت تنتظرني دوما دون حراك في البرد والحرارة والعواصف الهوجاء، وأنا ... أنا خذلتها مرتين...

لكني في المرة الأخيرة لن أنساها في ساحة الخردة تنتظرني وحيدةً محطمةَ الجانب مكسورة الأذرع، مهشمة النوافذ، مشروخة الهيكل والروح، وكنتُ جبانة جدا حتى من أن أقترب منها وأودعها مع أنني سمعتها تسامحني، همستْ لي: "أنا خائفة عليكِ " ثم أخبرتني أنها لا تلومني فكلنا نرتكب أخطاء...

لم تطلب مني حتى مبرّرات لفعلتي وخطأي، في وقتٍ تعبتُ فيه من التبرير -وأنا بريئة- لأقرب المقرّبين...

 وإن كان يعزّي تلك الصغيرة المعدنية أني كنتُ ضعيفة أيضا مثلها، مكسورة الجناح، وذهني مشوش، محبوسة روحي في جسدي متمنية التحرر، وفي الليل أتقلّب متألمة وأستيقظ وكأن يدا تغرز خنجرا في كتفي عميقا مخترقا العظم حتى الظهر، تطعنه بقوة باسمة وهي تذرو بأصابعها الملح على الجرح ...

كان لي الخيار، واخترت التخلي عن صديقتي الصغيرة دون حتى أن أربت على كتفها وأواسيها أو أشكرها وأخبرها أنها كانت صديقتي الوفية المعطاءة وكنتُ صديقة أنانية وغاضبة لدرجة أن أستغني عنها ولا أقدم لها المساعدة بأن أصلحها وأسترجعها، وألا أبيعها للغرباء ...

والآن مسافات شاسعة تفصلنا، وترسل لي هدية تأمينها...

هل تسامحني هي؟ هل تسامحني أنت؟ هل أسامح أنا؟!

تبًا هل يمكن أن نعود يوما لنصلح أخطاءنا!!!

ها أنا أحتسي آخر رشفة من إدماني، وخطوط قهوتي هذه المرة لن تظهر لأني شربتها في فنجان أسود و وأدتُها في وحل أسود...

 

 *****

 نادية محمود العلي 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق