الخميس، 18 أبريل 2024

نعمة أم نقمة؟!

عجز-مكتسب-فيل-عاصفة-قيد-سجن-وقت-آريز-عدو-سجان-مطرحرية-

نعمة أم نقمة ؟!


في عينيها كان الصمت والصخب، النور والظلام، الشهوة والزهد، الأمل واليأس، الفضيلة والرذيلة، البراءة والتلاعب، الحكمة والجنون، وكان فيهما الحب لكن من دون الكره، وهذه كانت ميزتها...

أكانت عيناها نعمة أم نقمة؟!

مشت مرفوعة الرأس كظافر، مفتوحة الصدر كمحارب، رشيقة القوام كأنثى كاملة، ينضح جسدها بالثورة وتفيض محيطات الحب في عيونها؛ فكان يراه الرجال رغبة وشهوة، وتراه النساء أنوثة وتواضعا، ويراه الأطفال حبا ولطافة، والشيوخ يرونه كرما ورحمة، باختصار كانت محبوبة الجميع...

لا أعداء؟!

بالطبع دوما هناك عدّو ولو قلّ عديده؛ لكن عدوها كان يُهزم لأنها محاطة بمحبة ودعم الجميع ...

لم تكن تعلم أن لميزتها تلك القوة، قوة هائلة حتى لتغير العالم من حولها...

يمكنها التلاعب بمشاعر الآخرين لكنها لا تفعل، هذا سيعطي ميزتها قوة أكبر لأنها تزيدها تواضعا وصدقا وبالتالي حبا...

تتعب أحيانا لأنها بشر لكنها حتى في تعبها معطاءة...

لم تكن ملاكا فلا وجود للملائكة على الأرض، ولم تكن شيطانة فالشياطين لا تتلبس الحب، ولم تكن قوية محنكة إلا أنّ ضعفها هو قوتها وحنكتها في حدسها الذي لا يخطئ....

وكانت تعرف متى تنسحب ومتى تبادر، متى تصدق ومتى تكذب، متى تكون قديسة ومتى تكون مذنبة إلى أن حدث ما حدث....

عدوُّ أناني ومتملك وقع في حبها وأقسم أن يمتلكها، فتبعها في كل خطوة منتظرا أن يصطادها كلبؤة أو ربما كفراشة، فقد كان يراها قوية ملكة كاللبؤة ولطيفة جميلة رقيقة كالفراشة، والاثنتين اصطيادهما صعب...إذن؟؟؟؟

فكر وفكر ثم عبس وبسر ثم انفرجت أساريره عندما قرّر أن يصطادها بسلاحها " الحب".

لم تكن تعلم أن العدو يمكن أن يعطي الحب، فوقعت في فخه كفراشة رقيقة ثم حاولت أن تلوذ بالفرار كلبؤة جريحة، ولكن عبثا...

عدوّها وصيادها أعطاها الحب والاهتمام لكنه حاول ترويضها بالقسوة والتملك والأنانية، غللها بالأصفاد وربط عنقها بطوق ضيق...

 صفعها أحيانا وأحيانا قبّل خديها، قصّ جناحيها ثم تحداها أن تطير، ضربها بالسوط ثم حاول مداوة جروحها، استعبدها ثم نزل عند قدميها يقبلهما، اغتصبها ثم طلب منها أن تبقى عذراء شريفة، أطفأ جذوة الحب في عينيها ثم سألها الحب والطاعة...

عيّن العدو عليها سجانا يراقبها ليلا ونهارا، وتوسّلت إلي السجان أن يجعلها تهرب من زنزانة عدوها ولكنه كان صامتا دوما، يجلس القرفصاء بعيدا يراقبها من بين قضبان باب سجنها، يبتسم تارة وتارة يعبس، يقدم لها كل ما تحتاجه، ويربت على يدها في كل مرة، وفي كل مرة تمسك بيده  وتستجديه أن يفتح لها السجن...

رويدا رويدا توقفت عن الاستجداء، وفي ذات ليلة كانت فيها الريح تصفق كل شي مسطح وتصفر في كل شيء مجوف وتهز كل شي واقف له جذور وتحمل معها كل ما هو يتدحرج أو هشا، حملت طبشورا عتيقا وبدأت ترسم فيها على جدار زنزانتها رياحا غاضبة بوجه مخيف وبشريّا مقوس الظهر يبتسم ابتسامة شريرة ويقطر من يديه الدم قطرات صنعت بركة تحت قدميه، واسترقت نظرة لسجانها الذي بدا غير مهتم إلا أنها بدأت تحكي فجأة حكاية فقالت:

كان ياما كان، رياح لطيفة هادئة تتجول يوميا في البراري وهي تعزف نايًّا كان كل من يسمعه يغرق في نشوة الفرح والأمان، ولم تكن تغضب أبدا لأن مهمتها نشر السعادة والسلام بين المخلوقات، حتى جاء اليوم الذي اصطدمت فيه برجل تقطر من يديه الدماء لأنه يرتكب المعاصي ويقتل الأبرياء ويسعى في الأرض فسادا. عزفت له الريح ودغدغته وحاولت طويلا أن تغيره إلا أنه استمر بسفك الدماء والتمادي حتى غضبت الريح وقررت أن تعاقبه فكانت أول عاصفة في التاريخ، صفقت ظهره حتى تحدب، ونفخت في أذنيه حتى صُمّ، ودحرجته حتى طار ثم رمته على الصخور حتى تهشم وألقمته للمحيط ليبتلعه في أحشائه المظلمة، ومنذ ذلك الوقت كلما ارتكب أحدهم إثما ولم يرتدع تهبّ العاصفة وتقتلعه.

استرقت النظر بطرف عينيها إلا أن السجّان لم يحرك ساكنا...

 لم تكن واثقة إن كان يصغي إلا أن ذلك خفف من وحدتها ومن خوفها، وصارت تحكي في كل ليلة حكاية وترسم على جدران زنزانتها لوحة لكل قصة، كان السجان يتأمل في كل مرة طويلا رسمتها وكانت تلاحظ بصعوبة ابتسامة مخفية في عينيه وفي زاوية شفتيه...

تكرر كل شيء بصورة أو بأخرى وصار روتينا اعتاده الاثنان، ورابطة خفية انعقدت بين الطرفين مع العشرة والسنون حتى جاء ذلك اليوم الذي نطق فيه سجانها لأول مرة...

كانت ليلة دعجاء عاصفة، نبالٌ من المطر انهالت من جعبة السماء وقذفتها الريح الهوجاء لتضرب الأبواب والنوافذ والأرصفة وتلوي الأشجار كأنها تشدها من شعرها حد الاقتلاع، ويبرق الضوء ثم يدوي الرعد كزمجرة وحشٍ هائج، وفجأة دُفع الباب الخارجي ورشقت الرياح قطرات المطر كحبات اللؤلؤ من خلال قضبان باب السجن، ثم نفخت شعرها الأسود للوراء وتطاير ثوبها فوق جسدها الناعم المُعذب فبدت كأميرة في حكايات الأجداد، ومن وراء درفتي الباب الخارجي ولج جسد مفتول العضلات مبلول الثياب وبزنديه حاول بصعوبة إغلاق الباب في وجه الريح ، ثم التفت إليها وفي عينيه إصرار غريب متجها نحوها تضيء قسمات وجهه الجدّي مع كل ومضة برق، وبالكاد عرفته ، إنه سجانها الذي عيّنه عدوها عليها...

همس -ولأول مرة تسمع صوته حتى ظنته أخرسا-: سأحكي لك اليوم أنا حكاية ...

ابتسمت فتابع دون أن ينتظر إجابة:

-كان يا ما كان، كان هناك فيل صغير جدا أخذوه من أمه عنوة وهو يرضع، ربطوا إحدى قدميه بحبل قوي جدا وأبقوه في السيرك عندهم يدربونه ويضربونه تارة وتارة يكافئونه حتى اعتاد أن يتصرف كما يريدون، وكبر فيل السيرك الصغير وهو مربوط بنفس الحبل لكنه أصبح فيلا ضخما لو شد رجله لانقطع الحبل بسهولة واستطاع الهرب، ولكن هل تعرفين ماذا جرى؟!

حدّقت فيه طويلا مستغربة، وحدق فيها بعينين مفتوحتين حد الانفراج ونظراته كانت كرشقات تلك الريح عندما اندفعت من خلف الباب، تابع:

-حسنا ذلك الفيل لم يكسر قيده ولم يقطع حبله الهشّ بل اعتاد الأسر والسجن والاستعباد وظن أنه غير قادر لأنه اُسْتعبِد منذ طفولته، واستشرى العجز في تفكيره.

سكت السجان وابتعد قليلا وجلس القرفصاء كعادته يراقبها، وهي ظلت جامدة تحدّق فيه طويلا، ثم أطرقت ثم حملت طبشورتها ورسمت على الجدار فيلا صغيرا مربوطا بحبل، ثم فيلا كبيرا قطع الحبل وصاحت به: هيه! انظر يا صديقي!

تأمّل الرسم كعادته وهذه المرة لم يخفِ ابتسامته، فنظرت إليه بحبّ، ومدَّتْ يدها بخوف وفتحت باب زنزانتها الذي لم يكن مغلقا أبدا، فأصدر أنينا صدئا وهو يُفتح...

لأول مرة وقفت أمام سجانها وجها لوجه دون حاجز، وكانت ملابسه المبللة من المطر قد رشحت البلل حتى عظامه وبدأ يرتجف من البرد، وبرق البرق وأضاء وجهه الذي ما زال مبتسما، ولاحظت بضع شعرات بيضاء على مفرق شعره وصدغيه، ثم عانقته بقوة حتى سحبت البرد من عظامه وأشعلت جذوة نار لتدفئته، وهمّت بالخروج ببطء شديد فأوقفها:

-هييه! قد تضربك العاصفة!

-اطمئن لن تضرب إلا الخاطئين.

ولمع البرق في تلك اللحظة ورآها كلوحة من رسوماتها على ذلك الجدار، وهي تلتفت لتتجه نحو العالم الخارجي:

 انسدل شعرها الأسود على كتفها وعيناها كانتا مضيئتين كنجمتين، ولاحظ وسوم القيد على كاحلها  ورسغها، وقد شدت قبضتها بقوة كأنها مُقدمة على معركة، فبدت كآلهة الحرب " آريز".

  خرجت ببطء كطفل يخطو لأول مرة وما لبثت الريح تدفعها دفعا حتى بدأت تركض...

لقد مرّت سنون الأسر كتلك العاصفة، سريعة مدمرة، ثم سكنت العاصفة وهربت من عدوها وسجانها وجلادها...

ما زال أنين الريح يضرب في أذنيها وما زالت دوامة الإعصار تتقاذفها وما زال أثر قيدها يطوّقها...

كيف يمكن النسيان!!!

النسيان يحتاج وقتا، وإصلاح ما دمرته العاصفة يحتاج وقتا ولكن هل يمكن للوقت أن يصلح ما أفسده الزمن في نفوسنا؟!

ثانية مشت مرفوعة الرأس كظافر هارب، مفتوحة الصدر كمحارب مخضرم، رشيقة القوام كأنثى ناضجة، ينضح جسدها بآثار القيود وتفيض عيونها بظلال سوداء كموجات المحيط في الليالي المظلمة؛ فكان يراه الرجال ضعف أنثوي مغري، وتراه النساء قوة وتواضعا، ويراه الأطفال مثيرا للاهتمام وفضوليا، والشيوخ يرونه غموضا ولطفا، وباختصار ظلت محبوبة الجميع، إلا أنها خائفة من عدوّ يتربص بها ووقت ينفد قبل أن تلملم شتات ذاتها. ...

همست وهدب الجفون تحاول أن تمنع فيض موجات المحيط الأسود من عينيها:

-صديقي السجان! حتى لو هرب الفيل كيف سيقطع الحبال التي انعقدت داخله متشابكة كشبكة معقدة استشرت في عروق قلبه وعصبونات دماغه، فأصابت قلبه بسكتة المشاعر ودماغه بجلطة العجز عن التفكير؟!

توسعت عيناها بذهول وهي تسمع صوتا يجيبها:

-ماذا عن الروح؟ الروح حرة وطاقتها جارفة، حرريها من أسرها...

  تكاد تقسم أن الصوت صوت صديقها السّجّان...

 

 ****

 نادية محمود العلي 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق