الأربعاء، 10 أكتوبر 2018

قبرة لا تطير


قصة - قبرة-لا -تطير-  


قُبَّرَةٌ لا تطير





( 1) "لُولْوَة"


هل مررتَ بتلك الدقائق التي تتوقف فيها فجأة مذهولا حابسا أنفاسك ،تمرُّ كشريط السينما حياتك التي مضت أمامك ، وتتساءل إن كنت هذا أنت حقا من عشتها مكتوبة  أو مُختارة ،لا فرق فأنت تشعر أنك تشبه شخصا آخر، وفي هذه اللحظة من أنت ؟ ما أنت ؟ أهو حلم؟

وعلى غير المتداول ، بطلة روايتنا "لُولْوة" ذات الثمان والأربعين عاما ليست جميلة ، هي كأي فتاة من مجتمعها عادية المظهر سمراء البشرة  ، تفوح منها رائحة عطرٍ تشبه البخور و العود  تعطيها ذاك الطابع من النساء المُحافِظات ، رزقها الله بثلاثة أبناء ،أصغرهم ثالث ثانوي وأكبرهم حصل على وظيفة  وأوسطهم يدرس في الجامعة ، وهي مُدرِّسة لمادة "التاريخ"  في مدارس البنات إلا أنها من ذلك النوع من ذوي الشهادات الذين يبدون جاهلين وكأنّ الشهادة ما أضافت إلّا ورقةً لسيرتها الذاتية دون المساس بالتفكير والمنهجية ...

وفي الحقيقة شهادتها كانت سلاحا ماديا هاما في مسيرة حياتها توقفت عليه قراراتها و اختياراتها وانعطافات دروبها  ...

رأيتُها صدفة في مصعد العمارة التي أسكنها منذ سنوات دون أن أتعرف على أحد من الجيران ، كغيري من الناس الذين جرفتهم أنهر الحياة المدنية الحديثة وعصر الإنترنت والخوف من التعرف على أحد ، فصرنا كقواقع فارغة هامدة تجرفها سيول الحياة كالحصى دون انتظار ...

صَعِدتْ معي وأطفالي وبدت سعيدة لرؤيتي وتبادلنا السلام والأرقام ، ودعوتها لمشاركتي فنجان قهوة سريع ، فلبَّت الدعوة ممتنة ، وعلى خلاف عامة البشر، مباشرة بدأت بسرد أجزاء من قصتها ، ومشكلتها مع زوجها ، وكأنها ما صدَّقت أن تراني لتزيح همها عن صدرها بالكلام  ...

وبقدر ما كانت تشكو وتُعدِّدُ مساوئ زوجها بقدر ما كانت تحاول أن تلوم نفسها و تجد الصفات الحسنة فيه أو تبرّر بعض أقواله الجارحة وتصرفاته الأنانية غير المسؤولة ... فاستشفيتُ الطيبة من ركام الألم ، والبساطة في شخصيتها رغم تعقيدات المشكلة ...
بابتسامة هادئة ونظرات لا توشي إلا بالبساطة ، وفي أكثر من جلسة  حكت لي حكايتها مع رشفات القهوة السوداء التي أضحت بكل أنواعها وبرائحتها جزءاً لا يتجزأ من روتين حياتنا  تضخ الكافيين في دمنا لنستمر ....


 *****


 (2) الصدمة


توقفتْ فجأة مذهولة حابسة الأنفاس يمرُّ شريط حياتها أمامها - ثمان وأربعون عاما طويلة – حزينة لفقدان والدتها التي كانت الحضن الرؤوم ، واليد الجامعة اللَّامَّة لأخوتها وأخواتها كل أسبوع ، والذين انفضوا كلّ في طريق بعد وفاتها ...
تشعر بالوحدة والضياع ، أبناؤها كلٌّ في عالمه ،رغم أنهم بارون بها ومتعاطفون معها ،إلا أنهم لم يعوضوا ذلك النقص والاحتياج لصدر حنون تستند عليه ويستوعبها ...
 زوجها المتزوج من ثانية - وهو أمر طبيعي في مجتمعها - لا يجيب على اتصالاتها ولا رسائلها وإن أجاب يقول : الآن تحتاجيني بعد وفاة والدتك ، أين كنتِ من قبل ؟
(وبالحقيقة أين كان هو ؟؟)

لولوة : إنكَ زوجي لي حقوقي وأولادك لهم حقوق عليك ، نحن لم نرك منذ أكثر من أربعة أشهر ...
هو : حسنا  آتي عندما يسمح وقتي أنا ، مشغول جدا الآن برسالة الماجستير ، وبيتي بعيد ولا أستطيع القدوم ...
تلحُّ هي ويتحجَّجُ هو ، وهذا هو الحال لشهرين آخرين ...

بعد التردد أرادت ، "لولوة" أن تضع النقاط على الحروف وأن تنهي حيرتها وانتظارها القاتل ،فقررت الاتصال على الهاتف الثابت لتردّ زوجته الثانية التي لا تعرف شكلها أبدا ، تسألها عنه وتشرح لها ظروفها ، إلا أنها تفاجئها بقولها أنه تزوج ثالثة منذ سنتين ولا تراه أيضا ، وتعاني الثانية مثلما تعاني هي ...

مصدومةً بدأت تسترجع كل أحاديثها معه وبدأت تتضح تصرفاته المبهمة معها ،فمنذ سنتين استدان منها مبلغا كبيرا لم يسدده حتى الآن ...

بكل وقاحة يستدين منها ليتزوج بثالثة!

بل وأخذ منها صدقة كبيرة لامرأة أرملة كما قال ، ثم اشترى لها جوالا حديثا ، وتساءلت لولوة ما حاجة امرأة فقيرة لجوال حديث ! أليس الأولى أن تصرفها على أبنائها ؟
والآن فهمتْ أن الجوال لزوجته الجديدة وليس لتلك الأرملة المزعومة ...
ليس غريبا عليه ... طوال حياتها معه وهو يأخذ من راتبها خلسة وعلنا ،وعندما تنبَّهتْ نصحتها مديرة المدرسة بفتح حساب في البنك وتحويل الراتب لحسابها ،ولما عرف بذلك استشاط غضبا ، وبدأ يتصرف كالمجنون ، ولم يعد يصرف عليها ولا على أولادها أبدا ...

وتصادف أن وقعت بقوة وهي تحاول ترتيب خزانتها ، فأصابها نزيف استمر طويلا ، فبدأ يتذمر ويشكو ليتزوج بالثانية ...

في ذاك الوقت لم يكن يهمها الأمر كثيرا ، فصدر أمها الحنون جاهز ليضمّها ، و قصر أهلها الكبير واسع بما فيه الكفاية لاحتوائها وأطفالها، وكرم أبيها المتوفى ما انفك مستمراً بفضل الله ، وذكريات سيئة لتصرفات زوجها تنفرها منه ، كمنظره وهو يفتش حقيبة يدها ويأخذ راتبها دون إذن كاللصّ و يرحل ،كمنظره وهو يضرب زجاجة حليب ابنها الرضيع في الحائط لتتفتت وتتناثر هنا وهناك لأنها أجابت على الهاتف وتركت الزجاجة بجانب سرير النوم - فهذا تصرف غير لائق بنظره- وكمنظره وهو يفتخر بجمال شكله وفحولته ويطلب منها بكلّ وقاحة أن تُري صورته للمعلمات في المدرسة إن كانت تقبل إحداهن الزواج منه ....

في البداية كان يحاول أن يكون عادلا بعض الشيء فيأتيها في قصر أهلها ، ثم بدأ يتذمر من ذلك فاشترتْ بيتا بأقساط على راتبها وانفصلت عن أمها لأجله ، إلا أنّ ما حدث العكس ...

بدأت فترات غيابه تطول أكثر فأكثر ،وعندما تزوّج بالثالثة دون علم منها  لم تعد تراه بالأشهر ...

وفي كل زيارة لها يأتي مسرعا خاوي اليدين حتى من طبق حلوى  ، وتكون قد جهزَّت له الغداء فلا يتذوق منه إلا القليل ويقول إنه تناول غداء شهيا من يدي زوجته الأخرى ،ويجلس كأنه جالس على شوك ، حتى أنها تفقدت مرّة مقعده بعد ذهابه لترى إن كان هناك شيء تحت وسادة المقعد فعلا...

تلك التصرفات كادت تفطر قلبها ، ثم تلوم نفسها أنها غير جيدة وغير جميلة ولا تستطيع جذبه كزوجته الثانية ، وتسأل كالمجنونة صاحباتها ماذا عليها أن تفعل كأنثى لجذبه، فيأتيها سيل جارف من النصائح والتعليمات لا تعرف ماذا تنفذُّ منها ، وتشعر أنها ليست هي ، إنها أنثى مُصطنعة ومُنافِسَة ضئيلة لزوجته الأخرى ...

  اهتزت ثقتها بنفسها ، وزاد الطين بلّة موت والدتها ، وانفضاض أخواتها من حولها ، وبدا قصر أبيها خاويا على عروشه مسكونا بأطياف رحلت وصدى تجمعات وضحكات ودمدمات ...

 بكت لولوة وتألمت ، وكانت تبدو مكسورة وتائهة تشبه " القُبّرة" المصابة الجريحة تذوي خائفة حتى من الظلال العابرة ...عندما رأتني كنتُ كطوق نجاة لها من وحدتها ومن صمت ألمها المنتظر التنفيس عنه ولو بالحديث لأحد ..


 ***** 


(3) استعادة الثقة


عندما عرفتْ بزواجه الثالث -وبقدر صدمتها- استعادت الكثير من الثقة بنفسها ،فلِمَ يتزوج الثالثة وكانت الثانية مرضية له؟ غير موظفة كلّ وقتها له وللبيت وتطبخ له أشهى الطعام وتلبي حاجاته كلها ...
إذا العيب ليس فيها ،ليس لأنها موظفة ،ولا لأنها غير جميلة ،وليس لأنها مرضت ،بل فيه هو وغرائزه وخيلائه وإعجابه بنفسه ،وامتطائه الدّين مطيّة لتبرير تصرفاته ،فقد كان إمام مسجد ويستعد لنيل شهادة الماجستير، لكنها إن حاججته بالمنطق أو ذكرته بعدل الرسول صلى الله عليه وسلم  بين زوجاته ،يقول : ذاك رسول وأنا بشر ،لا أستطيع أن أكون رسولا ...

لكنه ربما سيتزوج الرابعة أيضا ويُشعِر الأخريات دائما بالنقص ..

كيف يصفون الرجال بالعقلانية وأغلب تصرفاتهم تحكمها الغريزة ؟! يتصرفون بجنون عند الرغبة وعند الجوع والعطش ،عند الحصول على السلطة والمنصب والمال ،وتراهم هائمين في أودية و دهاليز السياسة يبيعون ويشترون الأوطان و الشعوب ،وبارعين في فن الحروب والدمار ..
أين عقل الرجل ؟

تقول لولوة لي : الرجل ليس له قلب يا عزيزتي ، إنه خالي المشاعر ، لا يفكر مثل المرأة بقلبه ولا تعني له الرومانسية والحب والاحتياج للحنان شيئا ..
أصمت... فما أنا إلا قطرة في سيل آلام "لولوة "...
تتابع :
لا بدّ أن أنهي الأمر وأضع له حدا ، إما أن يعاملني كزوجة ويعدل بيني وبينهن أو يطلقني ويتركني في سبيلي ،لست حجرا أو أثاثا فائضا له ، وهكذا يصبح له فرصتان لرابعة وخامسة  ..

تبتسم بسخرية ثم تتنهد متعبة مطرقة الرأس وهي تقول :

-        لست أدري ربما قصَّرتُ في حقه ، ولربما لم أعامله بكيد وخبث النساء لَكنتُ استعدته ،وجعلت حياة الأخرى جحيما ، لكنني لست كذلك ، من منا كامل ! ومن منا ليس فيه عيوب! فلستُ جميلة ولا ذكية ولا قوية ،ولكني أحببته بصدق وأردت أن أبني أسرتنا معا حتى بعد زواجه بالثانية ... إنه أجمل مني شكلا ،وأذكى مني ،وعنده خيلاء وغرور بنفسه ، لا أستحقه حقا ..

هنا قلتُ لها :
-        تلك الصفات لا يمكن الاعتزاز بها ، إنه ضعيف يواري تبعيته لغرائزه بالغرور والقسوة ،وكان سيتزوج ثانية كما تزوج ثالثة ، وربما الرابعة ، إن كنتِ أنتِ في حياته أم لا ،لا تشعري بالنقص يا لولوة ولا تخافي، يجب أن تكلميه وجها لوجه إما المضي معا قدما أو الانفصال بإحسان ...

قالت وهي تبتسم :
-        نعم معك حق ، وهل تعرفين أن صاحبتي في المدرسة قالت لي انفصلي عنه يا لولوة ، وهناك عريسان بانتظارك ،هل تصدقين ذلك !حتى إنّ أخت أحدهما اتصلت بي وسألتني إن كنت أقبل بأخيها زوجا بعد طلاقي ومرور العدة ! ... لكني لا أعرف حقا ، قلت لها دعيني أحلّ أمري أولا ثم أرد عليك ...
-        ماذا عن أولادك ، أيوافقون على انفصالك ثم زواجك من آخر ؟
-        نعم .. قالوا "تصرفي كما يرضيك يا أمي"  ليس عندهم مانع ..

بدت لي فكرة الارتباط مجددا بهذه السرعة وبهذا العمر أمرا محيرا ،إلا أنّ بعض الجراح لا يمكن علاجها إلا بالكيّ ، قد تكون فكرة الزواج بآخر حلا مناسبا لكي لا يلتهب الجرح ...
وقد يكون أمرا عاديا في مجتمع "لولوة" أن  تتزوج المرأة بعد طلاقها ..

انتهت جلستنا مع آخر رشفة من قهوتنا ،بدعوات أن ييسر الله لها أمرها ويكتب لها الخير فيما هي مقبلة عليه ...

 *****
    
  
(4) الابن الأصغر


في أحد المصادفات رأيت لولوة مع ابنها الأصغر ، كان يعرج على أحد القدمين ويجرُّ رجله جرّا ،كما أن لديه تأتأة بالكلام ويقول جملا في غير سياقها ...
وكنت أخجل أن أسألها عنه منعا لإحراجها ،حتى ذكرته هي ،وكانت له حكاية فيها من التقصير بقدر ما فيها من الألم :

عندما كان صغيرا بعمر حوالي ثلاث سنوات كان أخوه الأكبر يهزه بأرجوحة في فناء البيت ،فوقع على أحد أحواض الزرع وانشق رأسه بالإضافة إلى قوة الصدمة، ولم يتم إسعافه بشكل مناسب ، ثم غفى واستفاق يسترجع ما في معدته، وكلما مشى خطوة وقع ، فأسعفوه للمشفى ونُوِّمَ فيها حوالي ثمانية عشر يوما ،كان يعاني من نزيف داخلي وارتجاج ، لكن "لولوة" أخرجته على كفالتها دون موافقة الأطباء ، مما أثر عليه وعلى توازنه الجسدي والفكري ، وزاد الطين بلّة وجود خادمة في المنزل كانت تضربه على رأسه كلما طلب منها ولو كوبا من الماء ...

فللخادمات حكاية داخل حكاية دائما ،وجودهن ضرورة في مجتمعهم ومع الوظيفة كان أمرا حتميا ، وكنا نسمع عنهن ما يجعل الوِلْدَانَ شيبا ،سحر وشعوذة وضرب للصغار الرُّضع ،سرقة ووضع أشياء غريبة في الطعام أو الشراب ،أساليب ملتوية في تعذيب ومعاقبة الصغار من الضرب على الرأس حتى يصبح للطفل مشاكل في التعلم والاستيعاب مرورا بالمشاكل النفسية كالعنف عند الأطفال المُعَنَّفِين أو قد تصل أحيانا إلى القتل والفرار في أسوأ الحالات  ...

إحدى الأمهات حكت لي أن خادمتها كانت تُسخِّنُ علاقة الملابس الحديدية وتكوي بها قدم طفلها الرضيع ،وكانت تلاحظ وجود آثار الحرق ولكنها لم تتوقع أبدا أن يكون حرقا ، وعندما طال وجود الأثر الذي يبدو دائما جديدا ولا يشفى أخذته للطبيب الذي قال لها إنه حرق ، وعند مراقبة الخادمة بعد الشك فيها عرفوا السبب ،حتى إنها لم تجرؤ على تعنيف الخادمة خوفا من أن تنتقم بعمل سحر أو قتل أو ما شابه واكتفت بإرسالها لبلدها ...

مؤلم جدا جدا أن تُعامَل الطفولة بتلك الوحشية ،والمؤلم أكثر أن نترك أطفالنا ونهيّئ لهم الظروف ليُعَامَلُوا بوحشية ، نسلمهم لحما وفكرا للخادمة والسائق ونتركهم عرضة للعنف والتحرّش والتشويه النفسي والفكري ...

ويقولون : الخادمة والسائق مُرٌّلا بد منه ..

وأقول : لماذا ؟

ابن" لولوة " كان ضحية الإهمال ، وهي تشعر بالتقصير أيضا وتلوم نفسها ولكن لا ينفع الندم بعد فوات الأوان ،فهي أيضا أهملت شكواه عندما شكى لها من ألم في قدمه بعد أن مرّ إطار سيارة عليها وهو واقف عند المسجد ، وبعد أسبوع لم يستطع تحريك قدمه فأخذته للمشفى وكانت النتيجة أن العصب قد مات في رجله من الفخذ للقدم وبدأ يجرّ قدمه جرّا بعد أن كان يعرج قليلا ،وأكيد أن لولوة لم تسلمْ من لوم زوجها ولا نفسها عن كل هذا التقصير ، ربما كان جهلا وتباطؤاً في الرعاية وهي تقول قسمة ونصيب ، فكانت القسمة من نصيب الابن الأصغر ...

 هو الآن في الثانوي ولكنه يتعرض للهزء والسخرية حتى من المدرسين أحيانا بسبب بطئ فهمه واستيعابه وتأتأته في الكلام ، و وأحضرت له معلمين لتدريسه في المنزل ، ثم أرسلته لمدرسة مختصة بجانب منزل والده ، فأصبح أبوه مسؤولا عنه وعن تدريسه ، وأقام عنده في منزله مع الزوجة الثانية وأبنائها الأربعة ،
يحب أن يشتري لأخوته من أبيه الحلويات والهدايا ،كما أنه يحب جدته (أم أبيه ) ويزورها دائما ، هو لا يلوم أحد ...هو غُصة في حلق "لولوة" ...هو جرحٌ لا يبرأ ...   

***** 


 (5) اللحظة الحاسمة


و يبدو من السهل الممتنع أن تضع النقاط الهاربة على الحروف المقيدة ...

تطلّبَ منها الأمر اتصالات عديدة ومهانة وانتظاراً قاتلاً وتدخُّل أخيها حتى استجاب زوج لولوة وحانت اللحظة الحاسمة ...

قدِمَ إلى بيت أخيها وأرادت أن تكون موجودة لتسمعه وتراه ، لكنه بدأ بسيل اتهامات جارف من إهمالها له وسوء تصرفاتها وعدم اهتمامها بنفسها وأولادها ، سيلٌ جرف كرامة لولوة معه وثقتها بأنوثتها ونفسها ...

وفي النهاية باغتها بقوله : أنت طالق !

ولم يتأخر عن كتابة ورقة الطلاق وأصرّ أن يكتب فيها أنه لم يمسسها منذ سبعة أشهر ... فزاد من إهانتها وكأنه يقول لأهلها (لست مسؤولا لو كانت أختكم حاملا من أحد غيري )...

ابتعلت لولوة كلّ الكأس المرّ وهي تتخبط ، لا تدري أهو الصواب أو الخطأ دفع زوجها لحافة النهاية حتى يتصرف برعونة ...


عندما رأيتها كانت تبدو مهزوزة نادمة ...

قالت :
-        (لا أدري ! لم أكن أعني له شيئا ، ولا حتى أمّا لأولاده ، لم أشعر بالإهانة والإذلال قط مثلما شعرت عند مواجهته ... لم يكن لدي أسلحة أواجهه بها ولا حتى درع أحمي نفسي به من اتهاماته ... ... هل فرّطتُ به حقا ؟
هو جميل هو مثقف و............)


وعادت لذكر محاسنه ، ثم صفاته السيئة كالغرور والأنانية
 ولم أدرِ أكانت لولوة تحبه رغم كل شيء فتتخبَّط في بحر المساوئ والحسنات حتى لا تحزن على فقده ؟ أم أنها ترى نفسها في مواجهة خاسرة دائما ؟

ثم ذكرت لي ذلك العريس الذي ينتظرها لتتم عِدّة الطلاق ، وبأن هدفه ليس راتبها لأنه صرّح أنه سيُسكنها بيته ويسافر معها شهر العسل إلى بلاد أخرى والذي كان -أي السفر- حلمها المُؤَجَّل دائما ...

ذكرته وكأنها تستعيد به الثقة ثانية وبأن لديها فرصة رغم سنها وعدم جمالها - كما لطليقها الفرصة - في محاولة لمواساة نفسها ، وتعود لتقول إنها الآن غير مستعدة لإدخال رجل غريب في حياتها وحياة أولادها ...

وفي رسمٍ بيانيٍّ كانت إحداثيات نقاطه تعلو تارة وتهبط تارة راسمة خطا متعرجا ما بين سلبية الواقع و وإيجابية الأمل  ، تركتني مودعة بتلك الهالات السوداء تحت العينين يوشيان بأرقها وتعبها ، وبثوبها الذي كان مُرتّقا عند الكتف  بإهمالٍ يوحي بعدم المبالاة بزينة الدنيا ، تجرّ أقدامها جرّا وتحني ظهرها كعجوز طعنها الدهر مرارا وتكرارا حتى أناخها ، وتهزُّ يدي مصافحةً شاكرةً أني مستمعة جيدة ، صبّتْ في جعبتي كل حروف ونقاط حكايتها.....

*****



(6) النهاية البداية


بعد لملمة الشتات لم أرَ لولوة لأكثر من أربعة أشهر ، ثمّ طرقتْ بابي ذات صباح شتويّ حضنته أشعة الشمس بحنوّ مخترقةً ركام الغيوم التي كانت تبدو كقطعانٍ تغدو وتجيء راتعة في رُبا السماء ،وكانت تلبس ثوبا سماويا جديدا راسمة أجفانها بالكحل الأسود ،متوردة الخدين ،باسمة الثغر ، لتبشرني بزواجها  وأنّ الأمر تمّ بسرعة حتى إنّها لم تتجَّهز جيدا ،وأنّ أخاها وضعها أمام الأمر الواقع إما أن ترفض الرجل أو توافق فوافقتْ ...

باركتُ لها وأثنيتُ على مظهرها وطلّتها ،ودعوت لها بالسعادة ، ولم تطلِ الجلوس قالت إنها تغيبت عن المدرسة وتودّ أن تذهب لتطبخ له اليوم ، وأنها فضَّلتْ أن يسكن هو معها في بيتها ، ولم تسافر بسبب وظيفتها والاختبارات ...

وبعد شهور أخرى زارتني في العيد ، لكنها لم تكن بذلك البريق رغم محاولاتها أن تكون ، فقد فضحتها الهالات السوداء والنظرات المتهرِّبة من الالتقاء بعينيّ والبلوزة المرتقة التي لا تتناسب وبهجة العيد   ...

سألتها كيف هو قالت :( مُتديّن )...

وانتظرتُ أن تكمل باقي الصفات إلا أنها اكتفتْ بهذه الكلمة  مختصرة كل الصفات فيها ...

كانت عادتها أن تتكلم دون أن أسألها ...

 هذه المرة كانت كتومة فسألتها فقط إن كانت قد سافرت فقالت إنها لم تسافر مُحاولةً تبرير الأسباب ،رغم تلك الرغبة والخيبة العارمة التي كانت تحاول رتقها كذلك الثوب وتحاول جاهدة أن تخفيها في عينيها بحروف لسانها  ...

لم اسألها بعد هذا فما اعتدت التطفل ،لكني دعوت لها أن يعوّضها الله خيرا وأن يكتب لها الأصلح ...


وكانت آخر مرة أرى "لولوة" فيها ، لم تعد تتواصل كما في السابق ، وتتهرّب من زيارتي ، كقُبَّرَة جريحة مكسورة لا تريد أن يراها بكسرِها أحد ، ولا شيء في الأفق الشاسع سوى حلم بعيد تواريه بظلِّها الرمادي غيوم العجز و السّقم ...

كلمة "مُتديِّن" حملت الكثير من الصفات في كلمة واحدة ، وتركت الباب مفتوحا على مصراعيه تصفقه ريح الاحتمالات مُصدرة صريرا غامضا يتسللّ إلى صيوان الآذن هامسا : إنها النهاية البداية ...

***** 


 بقلم : نادية محمود العلي