الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

تحليق



تحليق



سرّحت نظرها  في فيحاء الفضاء التليد الذي بدا حرّا لا محدود ،وشغفٌ فاض عارما لسبر ذلك العالم المجهول ،لخوض غماره، لحبسه داخل كرة زجاجية تمسكها بحذر بين راحتيها وتهزّها لتتأرجّح ندف الثلج حلزونيّا في أثيرها...

معجونة بإكسير الفراغ الداخلي وبذلك الشغف العتيق حاولت أن تحلق عاليا  في الأفق الذي تطاله ،وعندما رأت أنها قادرة تجرّأت على ما لا تطاله ،وعلت فوق اللامحدود ،فهوت سريعةً تجذبها الأرض وتضربها سهام الريح يمينا وشمالا حتى سقطتْ تتدحرج ...تتكسّر ...تتألّم ...تتعلّم ... 

صدمها محدوديّة ما يمكن تجاوزه من هذا الفضاء الشاسع!
الغلاف الجوي ! القمر ! المريخ ! حتى إنهم يتجادلون بكروية أو تسطّح كوكبنا الأرض !...
هذا الغموض والقدرة الهائلة التي لا نراها تجعلها تتساءل أين نحن ؟! ما نحن ؟! ما حدود قدرتنا واستيعابنا ؟! هل عليها حبس الكون في الكرة الكريستالية تلك حتى تشعر بالحرية ؟!

أرهقها التفكير ... أرهقها الأنا والنّهم والسقوط والتعثُّر والتكسُّر ...

توَسَّدتْ ذراعيها وأسدلت جفنيها ،وومضات ذكريات من لُجَّة الماضي السحيق  ترفرف فوق رمشيها كخفق جناحيِّ  عصفور وليد الزّغب ، فتومض ذكرى مخاوف الطفولة، يوم كان أعتاها أن تستيقظ  ليلا في ذات يوم عاصف ولا تستطيع أن تشيح عيناها  خوفا من أن تجد لصّا مختبئا بين أفنان الزيتونة الضخمة ،التي انسدلت فوق سور الدار واسترخت على الجدار ثقيلةً حتى كادت فننها أن تُقبّل ذرات التراب ،ووريقاتها تلمع لمعانا برّاقا بانكسار ضوء لمبة الشارع في حبات المطر التي غسلتها حدَّ النقاء كخصلات شعر حورية بحر تداعبها أصابع قَمْرَاء ،وعندما يدوي الرعد مجلجلا  تتوجّس تلك الطفلة أكثر وتبحث عن إجابات في مخيلتها البكر و هي تسرع الخُطى نحو أحضان مهدها الدافئ - منقذها العتيد من غول مخاوفها - ثم تواسي نفسها بأنّ دويَّ الرّعد ما هو إلا صوت براميل معدنية كبيرة تتدحرج فوق إسفلت السماء، وتحاول أن تخفي رهبتها من أزير العاصفة الماطرة ،وكذا خوف أخيها الصغير فتضمّه في محاولة لتهدئته وهي تهمس له بصوت مهزوز : لا تخف ! إنه صوت براميل تتدحرج في السماء !...

 غفت متوسِّدة كفيها متكوِّرة في وضعيّة الجنين كعادتها ،كطفلة أنهكها العبث ،ثم حلمت بأنها نجمة تشعُّ في الفضاء وأن جوفها نورا لا نارا ،وكانت تسبح بحرية في الفراغ الهائل ،و فجأة بدأت أجرام كثيرة بالظهور في دربها ،وأرادت تجنّبها عبثا، فحركتها مقيدة بجاذبية النجوم والكواكب الأخرى، وتبّين لها أنها ليست حرّة حتى إنها لم تكن تسبح ،ولا تحلّق، كانت تدور فقط وتدور محبوسة  في خوارزميات نيوتن وآينشتاين ، ،وسلاسل هائلة طويلة غير مرئية تلفّ جسمها كالشرنقة ، لتصحو فجأة من كابوسها وتتساءل : متى تصير فراشة ؟!
هل عوقبت تلك الشرنقة الشرهة للمعرفة، فكُبْكِبَتْ داخل خيوط جهلها ؟! هل كان عليها أن تنظر لمكان وطأة قدمها على الدّرب فحسب وترضى بما تعرف؟! فالجهل نعمة أحيانا كما يقولون ...

*****

بقلم : 
نادية محمود العلي