الجمعة، 13 يناير 2017

هيا اقرأ و التحم

اطارد الحروف في تجويف رأسي ، احاول جاهدة الامساك بها و من ثم تهذيبها و صفها في صورة كلمات و جمل ذات معنى ،احاول تجسيد أفكاري في شكل نص يليق به، أو حتى ليعبر عن مدى امتناني و تقديري له فحسب.
في مرحلة ما من حياتي ارتأى عقلي أن يتخذه صديقا، بينما نصبه قلبي بحفاوة، كحبيب و إن لم يبارح الوجدان
... لست هنا بصدد التعريف بسيرته الذاتية أو تاريخه الأدبي، و ذلك لسهولة الاحاطة بهما بكبسة زر وفق قاعدة بيانات الشبكة العنكبوتية، ولاني و بطبيعة الحال دون مستوى التعريف بقامة عريقة كما هو....
لكن و لرغبة شخصية فحسب، قررت  نثر القليل من الثرثرة حول صاحب القلم الرحيم " عبدالوهاب مطاوع "
في آب 1991 ، ذات عطلة صيفية حارة رتيبة كالعادة ،و أثناء تناول وجبة العشاء، ساقني القدر فازحت طبق الجبن لليمين قليلا، عندها لمحت لأول مرة باب بريد الجمعة  بجريدة الأهرام، بعدها  ارتبطت بوثاق وطيد مع محرره "عبدالوهاب مطاوع"، و ثاق امتد حتى وافته المنية ذات صيف حار أيضا. 
بعدها علمت أني لست وحدي التي كانت تطوي الاسبوع تحت أقدامها ركضا لتصل ليوم الجمعة، لكني كنت البائسة الوحيدة التي تصل ليوم الجمعة متأخرة عن معشر الراكضين، فقد كانت تحتم الظروف و طبيعة المرحلة تأخر وصول المطبوعات يوم بعد صدورها في بلد المنشأ،و كنت أنا خارج البلاد,,,
يبدأ الاحتفال عند ليالي الخميس، برصيد من الشغف و الشوق يتصبر بمخزون من الجُمع السابقة ، ثم يمر نهار الجمعة طويلا سمجا، و لا يغفر له ذلك سوى أنه في بقعة ما من هذا العالم و في هذا اليوم، هناك من يسقط عليهم ضوء حروفه، هناك من ينعم بدفء فكره ... إذا لا بأس، علي بالصبر... فحتما سيحين دوري.
عند ظهيرة السبت أكون قد احتضنت بيدي عدد الجمعة ، و بلهفة شديدة انقض على الجريدة و اقتنص صفحة باب بريد القراء، ضاربة عرض الحائط بغضب أمي على اشلاء الجريدة المغتصبة في هرجلة متعمدة عن سبق اصرار و ترصد..!
في غرفتي الموصدة وأنا مازلت قائمة، تلتهم عيني السطور في عجالة حتى أصل لعبارة " لكاتب هذه الرسالة أقول".... هنا ينبلج بصيص النور ، فيعزف نبضي على ايقاع حروفه سيمفونية خاصة، فريدة ،عرفتها لأول مرة معه ...صاحب القلم الرحيم.
بعدها,,, لمرات و مرات عديدة، امارس اجترار زادي الاسبوعي،اكرر عباراته بيني و بيني، اتناقش معه في خيالي حول اراءه ،  ثم لا يفوتني أن اتجول هنا و هناك اغرق كل من هم حولي بصخبي المعهود، فأنا لا يكفيني أن أقرأه، بل أحاول أن أعيشه من خلال حديثي عنه و التأكيد في كل مرة على مدى حكمته و رجاحة عقله في معالجة الأحداث.
بدأ شغفي بالقراءة على يديه ، و تشكلت أفكاري و رؤيتي للأمور من وحي أفكاره و مبادئه، فكان لي معلم و مربي و قدوة و حلم طال مداه، كان أول تجربة ارتباط معنوي أنشأتها مع كاتب، رأيته  حينها مثالا للطهر و النبل و فارس الفضيلة.
  كثير ما استحضرته في خيالي و استوحيت من ردوده على القراء حلول لمشاكلي الشخصية، و كثير ما وددت لو دار بيننا حوار بشكل فعلي، ابث من خلاله مشاعر العرفان و التقدير لشخصه الكريم,,,,
في آب 2004 بكته عيني بحرقة مع ملايين العيون التي ترك عظيم الاثر في نفوسهم ,,, رحمة الله عليه ،فقد رحل صاحب القلم الرحيم لكن لمساته الرقيقة ما زالت شاخصة بوجدان كل من عرفه
على الرغم من أن تجربة الارتباط المعنوي تلك كانت الاولى في حياتي، لكنها لم تكن الآخيرة ،توالت تجارب الارتباط المعنوي بتوالي الأيام ، و كل تجربة تركت في الوجدان بصمتها الخاصة ، و التي ربما تنعكس في طريقة تفكير أو اسلوب كتابة أو حتى  في صورة ولاء ما لنهج بذاته،   لكن لسبب ما لست أدري كنته,,, ربما لحداثة سني إبان  تجربتي الأولى و ما يتبع ذلك من سذاجة و براءة، أو ربما لدخولنا عصر فيض المعلومات و ما يتبع ذلك من وضوح ادق للتفاصيل..!
لا أدري.. باتت العلاقات بين القارئ و الكاتب تتشوه بشكل أو بأخر و لو بعد حين، غابت الحيادية عن النصوص بينما سيطرت الانتماءات، و كشرت الأهداف عن أنيابها، ما عادت الأولوية للانسانية و الاخلاق السامية و اعلاء القيم...!
... أو ربما كسائر المسنين أنا من أصابتني علة سوء النية.!
عموما و بغض النظر,,,, تظل تجربة القراءة على رأس قائمة سبل المعرفة، و لطالما امنت أنها ميل فطري غريزي لجنس بني البشر، حتى و إن جهل أو أنكر البعض ذلك ، و البرهان على ذلك يكمن في الآمر الرباني ,,,,اقرأ في سورة" العلق"
فبالتأكيد ربنا الذي احاط بكل شيء علما لن يكلف نبيه الأمي فوق وسعه ...
من هنا نعي أن معنى اقرأ يتسع ليحتوي أكثر من مجرد تصفح حروف ، ربما علينا تعلم القراءة و إتقانها في كل صورها، علينا أن نقرأ مجريات الأحداث، نقرأ عيون الناس،نقرأ الملامح و الوجوه، نقرأ دواخلنا ونصارحنا بها و نتصالح معها، نقرأ ابسط الحكايا و أعمقها، نقرأ عفوية الصغار و دهاء الكهلان ، نقرأ سلوك الحشرات و الحيوانات و الطيور، نقرأ لوحات الطبيعة الساكن منها و الهائج ، نقرأ ثم نقرأ ثم نقرأ...
لا تتردد و لا تتقاعس، لا تتباطأ، هيا اقرأ و التحم و تغول في أي شي و كل شيء و ما وراء  كل شيء فالقراءة هي المهمة الأهم على سطح الكوكب..!!!


نسرين