الأحد، 17 سبتمبر 2023

هنا وهناك

 عالم-سري-روبوت-دنيا-ضياع-خوف-زهرة-أقحوان-نور-ظلام-

هنا وهناك

في تلك اللّحظات لم يكن هناك مفرّ، لم يكن هناك طريق سالكة، والأفق امتدّ ساكنا إلى مالانهاية، والفضاء خلا حتى من الفراغ، والناس بدوا روبوتات في أجساد بشرية، ولا عجب فنحن في عصر الذكاء الصناعي...

تعالتْ روحها التي أبت أن تكون روبوتا وصارت تحدّق في الناس من الأعلى، وبدا المشهد وكأنّ الأرض رقعة شطرنج، والناس هم أحجارها البيضاء والسوداء، وعلى أحد جانبي الرّقعة يفكر الخير في النَّقْلَةِ التالية، وعلى الجانب المقابل يلعب الشّر لعبته...

أحسّت بالسموّ والعلوّ وكأنّها انسلخت من جسدها البشري فوق الخطايا وفوق الفضائل والمعايير البشرية للنجاح والفشل، ولم ترد الهبوط ثانية، لكن هناك قيود وروابط لم يكن من السهل فكّها، والتي أعاقت تحليقها ولم تجعلها تطفو أعلى....... هل تهبط؟ .........

 تتقلّب ذات اليمين وذات الشمال في سريرها محاولة أن تهزم ذلك الأرق المتطفل على لياليها، وبين التقليبة والأخرى تحدّق في سقف غرفتها تستذكر طرقا فعالة للنوم وهزم ذلك المتطفل: طريقة الجيش الأمريكي، أكل موزة وكأس حليب، حتى إنها عدّت الخراف.

وعندما أحست بثقل جفونها وفراغ أفكارها وأنّ الأرق بدأ يجرجر أذياله سمعت حركة وهسهسة جعلتها تجلس في سريرها وتتوّسع حدقات عينيها في ظلّ بصيص الضوء الخافت مفتشة عن مصدر الصوت.

نهضت من سريرها وتتبعت صوت طرقات خفيفة من خزانة ملابسها، ثم مدت يدها بتردد وفتحت درفة الخزانة لتجده؛ طفلا صغيرا يكتم ضحكته بيد واليد الأخرى تحمل زهرة بيضاء صغيرة...

-ما هذا! من أنت ؟!!!!

قالت وقد استولت عليها الدهشة...

مدَّ يده الصغيرة وكأنّه يهديها الزهرة، وهو ما زال يحاول كتم ضحكته ...

تأملت الزهرة: كانت زهرة أقحوان بيضاء بريّة، تشبّعت بتلاتها بالصفاء وانحنت فوق سَبلاتها الخضراء بخنوع طفوليّ، وبلّل الندى أسديتها الصفراء وكأنّه يهديها رشفات الخلود.

التقطت الزهرة من يده، ولدهشتها لم تلاحظ متى أصبح الطفل فجأة مراهقا وهو يضحك دون أن يحاول كتم ضحكته هذه المرة، وقال وهو يشدها من يدها داخل الخزانة بعنف:

-أنت الآن هنا بمجرد أن قبلتِ أخذ زهرة الأقحوان.

قالت وهي تتألّم :

-اترك يدي! من أنت؟!

قال وهو يبتسم وينظر في عينيها:

-أنا عالمك...

ولم ينتظر الرّد وسحبها معه إلى داخل الخزانة لتجد نفسها فجأة في حقل واسع من زهور الأقحوان البيضاء، تتألّق في ظلام دامس، وتلمع كالنجوم في الفضاء، ولا أحد ولا شيء يستطيع أن يطفئ لهيبها وسطوعها.

همست له:

-هل أنا "أليس في بلاد العجائب"! أم أني أحلم؟!

- أنت هنا معي.

قال وهو يتأبّط ذراعها بقوة.

ونظرت إليه لتجده قد أصبح شابا ناضجا كاملا، إحدى عينيه تشعُّ بالنور والثانية مظلمة كليلة دعجاء لا قمر فيها ولا نجوم.

التفتتْ إليه بكامل جسدها وتأملته دون خوف هذه المرة...

شعره طويل أسود، وجبهته قد ظهرت فيها بعض التجاعيد، منكباه عريضتان وعضلاته مفتولة كمصارعي الحلبة، حدقة عينه المشعّة بدت كزهرة الأقحوان اللامعة في الحقل، وحدقة عينه المظلمة بدت كثقب أسود في الفضاء.

قال لها:

-ادخلي في عيوني، المسي النور والظلمة، كوني معي...

دخلتْ..... شربت ندى الأقحوان وضاعت في دهاليز الثقب الأسود...

وعندما خرجت مُنْتشيّة سعيدة كانت يده المجعدة تمسك بيدها وأصابعه تتشابك مع أصابعها، وظهره منحنية أثقلها العطاء، وجبهته قد تجعدت...

لقدا غدا عجوزا في كلّ ثانية يقترب من الموت، وفي كل ثانية يخطو خطوة ثقيلة باتجاه درفة خزانتها...

قال لها بصوت ضعيف وابتسامة متعبة:

-عودي إلى عالمك الآن!

عانقته بكلّ قوّة وهي تسأل:

-هل ستموت؟!

قال وهو يغمض عينيه ويلفظ أنفاسه الأخيرة وشعره الأبيض ينسدل على جلد رقبته المجعد:

-سأعود غدا... سأعود طفلا يهديك زهرة أقحوان، فهل تقبلين؟

ردّتْ وهي تبتسم والدموع تحرق جفونها المتعبة:

-سأقبل؛ فأنت عالمي السّري.

أغلقت باب خزانتها وزحفت إلى سريرها وغطّتْ في نوم عميق، لتصحو على صوت أمّها يناديها على الفطور في العالم الحقيقي، واستغرقها بضع لحظات أو ربما دقائق وهي تتأمّل خزانتها طويلا ثمّ تنهض وتخرج لمواجهة روبوتات الدنيا.

 

*****

 نادية محمود العلي