الاثنين، 23 أغسطس 2021




الشغف

بمرور الزمن ننشغل بملاحقة بعض مكاسب.... وبينما تتشبث أصابعنا بهم ينفلت على حين غفلة الكثير من الممتلكات ......
ببيتنا القديم كان يرقد دولابنا ذي الثلاث درف، يرقد بوقار عجوز يحمل بداخله ما لا يقل عن صندوق العجائب غرابة وإبهار ،وأنا الصغيرة التي يقتلها فضول العبث بالأشياء الممنوعة، نعم أعلم جيدا أن هذا العجوز يخبئ الشغف في رفه العلوي وأتحين الوقت الذي تكون أمي به في الخارج، أركض إلى حيث ضالتي وأنا لا أدري هل أنا أسرع أم دقات قلبي، ولسان حالي يردد « يا هذا ....بداخلك شيء يعنيني»، أفتح الدرفة الثالثة وأستعمل الكرسي وأتناول حقيبة أمي المرصعة بالأحجار اللامعة ، وبمجرد أن تلمس أناملي الحقيبة يهدأ قلبي الصغير ،يحل به السرور والسكينة ويتبدد القلق ،تعلو البسمة فوق ملامحي ،تلمع عيني مع انعكاسات لمعة الحقيبة عندما أخرج منها علبة في جراب مخمل أسود مطرز عليه كتابة باللون الذهبي ، تلك الكتابة في حد ذاتها لا تعنيني البتة لكنها من شأنها أن تزيد من لهفتي ، بمنتهى السعادة أفتح العلبة ليفوح منها رائحة والله كأنها الجنة ، العلبة عبارة عن شقين إحداهما مرآة والآخر يضم كل ألوان المجرة التي خلقها الله ، وعلى اليسار تقبع فرشاة صغيرة أستعملها كعصاة سحرية أطبق بها ألوان المجرة على وجهي الصغير ، بسخاء أزرع حدائق بنفسج فوق إحدى عيني وزنابق فوق العين الأخرى ويطرح التوليب في غير موسمه فوق وجنتي ويسيل الكرز من شفتاي ، أتأملني وجمالي برضى وامتنان بالغين ثم لا ألبث أن أجرف تلك الغابات عن وجهي لأرسم لوحات ولوحات لا تقل إحداهن صخب عن الأخرى، وبينما أنا مستغرقة في شغفي حتى أذناي حرفيا،،،،، أفيق وقد سرقني الوقت وأتذكر أنه عليّ أن أزيل آثار العدوان قبل عودة أمي وإخفاء جميع الأدلة التي يمكن أن تدينني بالجرم ، فتهرب الطمأنينة من جديد وأعود أنا وقلبي للركض معا نغسل ونرفع ونغلق ونعيد كل شيء إلى سيرته الأولى، بعودة أمي أظن أن كل شيء على ما يرام ،لكنها بمجرد النظر تدرك ما حدث وبالتالي أنال عقابا شديدا يظل بالذاكرة حتى تغادر أمي المنزل مرة لاحقة ، عندها أكون قد تعلمت الدرس جيدا أو هكذا على ما أظن ....لقد أصبحت الآن أكثر حرصا واحترافية في اخفاء معالم الجريمة وطمس براهين الإدانة فلا تشي بي عيني الملطخة أوالحقيبة الغير مغلقة.

أمي..... لقد كبرت يا أمي !

- اليوم من حيث الخامسة والأربعين أحدثكم ...

- وقفت أمام المرآة وانتبهت أنه قد مر زمنا طويلا لم أمس فيه أدوات التجميل ، ما عادت ألوان المجرة تغريني... أطلت النظر وأنا أفكر متى بالتحديد ولماذا فقدت الشغف، كيف فقدت الأشياء متعتها التي كنا نعهدها..!؟

لا بأس ...فالشغف ليس الفقد الوحيد الذي يحدث أن نختبره مع التقدم بالعمر ، كما أنه ولله الحمد_ كسائر الاشياء_ سيان.... به أو بدونه تستمر الحياة... أو هكذا على ما يبدو ...!