السبت، 9 يناير 2016

النص للدكتور مصطفى محمود من كتاب لغز الموت...

 
النص للدكتور مصطفى محمود من كتاب لغز الموت...
 
 
الشهوة تكشف لك عن نوعك عن ذكورتك .. و الحب يكشف لك عن نفسك .. عن ذاتك .. و الملل من الاثنين هو الإشعار الخفي الذي يأخذ بيدك إلى محبوبك الحقيقي...

أحبك ..
كلمة لذيذة تصيبنا بالخدر و الدوار ..
كل شيء فينا يذوب و يتفتت حتى اللغة نفسها تذوب و الزمن يذوب و المكان يذوب و العقل يذوب و القلب يذوب .. و نحن ننطقها ..


اللغة تتعطل في لحظة الحب و يحل محلها سكوت ناطق معبر . و الزمان و المكان يتلاشيان في غيبوبة صاحية تكف فيها اللحظات عن التداعي و تنصهر في إحساس عميق بالنشوة و النصر و الفرح ..
قد تكون هذه النشوة لحظة واحدة .. و لكن هذه اللحظة تصبح كالأبد ..
الحب يؤبدها فتستمر مائلة أمام الشعور .. تستمر في المستقبل لسنوات طويلة تلاحق صاحبها و قد ألقت ظلاً طويلاً على حياته .. و امتزجت بصحوه و نومه و أحلامه و هذيانه .. و التصقت به من داخله فأصبح من المستحيل عليه أن ينفضها مع ثرثرة كل يوم و مشاغله و تفاهاته ..
أصبحت بعض نفسه .. تحيا بحياته .. و تموت بمماته .

 في لحظة الحب ينفتح شيء فينا .. ليس الجسد ؟؟ بل ما هو أكثر .. بوابة الواقع كلها تنفتح على مصراعيها فتتلامس الحقائق و المعاني الجميلة و المشاعر التي يحتوي عليها الحبيبان .
و يحدث الانسجام من هذا التماس بين الأفكار و المعاني و الأحاسيس الرقيقة ..
و يخيل للاثنين في لحظة أنهما واحد .. و يسقط آخر قناع من أقنعة الواقع .. فتذوب الأنانية التي تفصلهما .. و يصبحان مصلحة واحدة و فكرة واحدة .
و لكنها لحظة خاطفة لأن الواقع الصفيق ينسدل من جديد بين الحبيبين فيعود الهم يعزلهما الواحد عن الآخر ..هم الزمن والساعة التي أزفت والميعاد الذي انتهى والوقت الذي حتم على كل منهما أن يعود إلى عمله ..وهم المكان الذي يعزلهما كل واحد في بلد ..وهم الجسد الذي يحوي كلا منهما في كيان مستقل من اللحم والدم ..وهم المجتمع الذي يحتوي على الاثنين ويطالبهما بالتزامات وواجبات .. وهم من الماضي الذي يدخل كشريك ثقيل الظل في كل لحظة ..
إننا لا نعيش وحدنا.. بل هناك الآخرون .. وكلهم ينازعون حريتنا ولقمتنا وحياتنا ؟؟
وفي هذا الزحام نضيع ويطمس الواقع على أحلامنا ويأخذنا معه في دوامة من التكرار السخيف من الأكل والشرب والنوم..
لا نفيق منها إلا لنغيب فيها من جديد ونمضي حياتنا في روتين ممل لا نلتقي فيه بأنفسنا أبدا.. ولا نذوق الحب ولا نعرفه.
وقد تزوج ونعيش حياة بليدة هادئة ..نلتقي فيها بزوجاتنا كما نلتقي بدفاتر الحضور في الديوان ..نوقع عليها كل ليلة لنثبت حضورنا في الميعاد.. ونعيش حياتنا الجنسية بدون وجدان.. وتظل الزوجة في نظرنا مجرد أنثى لقضاء الحاجة.. يمكن أن تحل محلها الخادمة أو أية امرأة بدون أن نحس أن شيئاً ما ناقص أو مفقود .

 
إن الشهوة شيء غير الحب..
إنها أقل من الحب بكثير .. فهي رغبة النوع وليس رغبة الفرد..
إنها علاقة بين طبيعتين و ليست علاقة بين شخصين ..علاقة بين الذكورة والأنوثة ..
و الفرد لا يكتشف فيها نفسه و لكنه يكتشف نوعه و ذكورته ..
و الحب يحتوي على الشهوة و لكن الشهوة لا تحتوي عليه ..
بالحب لا تكتشف فقط أنك ذكر .. و لكنك تكتشف أيضاً أنك فلان و أنك اخترت فلانة بالذات و لا يمكن أن تستبدلها بأخرى ..
إن كلمة (( أحبك )) هي أعمق و أجمل كلمة في حياة الرجل لأنها ليست مجرد كلمة و إنما هي نافذة يطل منها على حقيقته و سره ..
و الحياة الخالية من الحب حياة باردة موحشة سخيفة خالية من الحماس و الطعم و البهجة .. تنساب فيها الرغبات مضعضعة ميتة من الملل و الضجر و الفراغ ..
الحياة بلا حب .. غربة ..
و الشهوة لا تسعفنا , و لا تطفي عطشنا و لا تعوضنا عن الحب ..
إنها وسيلة للهروب فقط نبدد بها نشاطنا و نتخلص منه .
إنها مثل الخمر و القمار و المخدرات وسيلة للإغماء و للإعياء و البلادة ..
 
و الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يحل محل الحب هو الفن .. لأنه ينفذ إلى القلب مثله .. و يكشف مثله عن ذاتنا العميقة .. و يوصلنا إلى اللحظات الأبدية المليئة .. و يطلعنا على كنوزنا و أسرارنا ..
و ما يبدعه الإنسان من فنون خالدة يدل على أنه يحتوي على بذرة الخلود في داخله .
و ما يعيشه من لحظات أبدية يدل على أنه يحتوي على الأبدية في قلبه .
 
 
و الحب الذي هو أعمق من كل حب لا يفجره في القلب إلا التصوف و الشعور الديني .. لأن الدين هو الذي يعيد الإنسان إلى النبع الذي صدر منه و يأخذ بالإنسان الساقط في الزمان و المكان ليرفعه إلى سماوات الأبدية و لا يرفعه إلى هذه السماوات إلا الحب .. منتهى الحب الذي يفنى به العابد عن نفسه و عن الدنيا شوقاً إلى خالقه .
و ما حب الإنسان للمرأة .. و ما حب الإنسان للفن .. و ما حب الإنسان للجمال .. إلا خطوات الدليل الخفي الذي يقودنا إلى الله .. إلى المحبوب الوحيد الذي يستحق الحب .. إنها محطات سفر إلى المحطة النهائية .. محطة الوصول ..
مرة بعد مرة يكتشف الإنسان أن موضوعات حبه لا تملك وجوداً حقيقياً .. فالوردة تذبل و الشمس تغرب و المرأة تشيخ و الجديد في الفن يبلى .
و ما رآه في المرأة جمالاً يكتشف أنها لا تملكه و أنه يزايلها بالشيخوخة .. إنه لم يكن جمالها .. لقد كان وديعة أودعت عندها ثم استردها صاحبها ..
و ترد الشهوة ..
و تفتر العاطفة ..
و يتجه الرجل بحبه إلى امرأة أخرى لتتجدد الخيبة و يتجدد الملل و يتجدد الضجر ..
لا .. إن حبه أكبر من أن تستوعبه ذراعان .
إن حبه يعبر به الغايات المحدودة و يتجاوزها إلى قيم الفن و الجمال و الخير و العدالة و الحقيقة .
و هو على عتبة هذه المجردات يكتشف أنه يريد الله بكل حبه فهو الواحد الذي تتجسد فيه كل هذه القيم اللانهائية .
و هو اللامحدود في مقابل المحدود .
ها هو أخيراً يجد الجواب على السؤال اللغز الذي طالما حيره
لماذا خلقت .. لماذا وجدت في هذه الدنيا ..
هو الآن يعرف لماذا خلق .
ليصل إلى حقيقة نفسه .. و ليدرك إلهه .
و ما أرض الواقع إلا المزرعة التي يلقي فيها بإمكانياته لتورق و لتثمر و تتحقق .. تلك الإمكانيات الباطنة فيه بطون جنين القمح في بذرة القمح .
و هو يرى نفسه كإدارة هائلة تتخبط في سروال ضيق من الجلد و اللحم لا يسمح له إلا بالسير البطيء خطوة خطوة و الحياة بالقسط لحظة لحظة .. و في كل خطوة من خطواته و في كل لحظة من لحظاته يترك بأعماله أثراً يدل عليه .
و هو كل يوم يملأ ورقة الامتحان و يجيب عن الأسئلة الأزلية
من أنت
ماذا تريد أن تقول
ماذا تريد أن تفعل
ماذا تخفي في قلبك
ليكشف عن مكنونه و يحقق ذاته
و يقوده حبه لنفسه و حبه للمرأة و حبه للجاه و السلطان إلى يأس بعد يأس و ملل بعد ملل و إحباط بعد إحباط حتى يشرق فيه حب الحق ليدله على الطريق .. إلى الواحد الأحد الذي تجتمع فيه كل الكمالات .
و يزداد حبه عمقاً ليصبح عبادة و صلاة .. و هو يصعد في طريق العودة إلى منبع الأنوار ..
و هو الآن يشعر أنه وجد نفسه حقاً و عرف إلهه و عرف هدفه و عرف طريقه .
و هو يدرك أن كل ما عاناه من عذاب و ألم و إحباط و يأس لم يذهب عبثاً .. فقد كانت كل تلك الآلام هي المؤشرات التي كشفت له طريقه و دلته على حقيقته .. كانت بوصلته و دليله في بحر الظلمات .
و من أجل هذا خلق الله الحياة ..
إن الإنسان معجزة المتناقضات .
إنه فان و يحتوي على خالد .
و ميت و يشتمل على حي .
و عبد يحتضن قلباً حراً .
و زمني و يحتوي على الأبدية .
و حبه و فنه و تفكيره و صحته و مرضه و جسده و تشريحه تدل كلها على هذا التركيب المتناقض .
الدنيا كلها تقيده و جسده يقيده مثل الجاكتة الجبس .. و مع ذلك .. لا تمنعه هذه القيود من أن يضمر في نفسه شيئاً .. و أن يفرض هذا الشيء على ظروفه .
فهو يصهر الحديد و يسوي الجبال بالأرض و يشق الأنفاق و يطلق قذيفة من عدة أطنان إلى القمر .. كل هذا و هو جسم صغير هلامي من اللحم و الدم ..
و هو يرقد مريضاً مشلولاً يائساً .. فإذا اجتمع بزوجته أنجب طفلاً يرقص من الصحة و العافية ..
أين كانت هذه الصحة مختفية في المرض ..
و هو يبدو ضعيفاً قليل الحيلة .. تقتله رصاصة بمليم .. تماماً مثل الرصاصة التي تقتل الكلب .. و لكنه مع هذا لا يستطيع أن يطلق من فمه قبل أن يموت صيحة يهدم بها نظاماً بأسره ..
من أين يخرج صوته .. و ينساب تفكيره .. و ينصب شعوره .. و تتدفق قواه غير المحدودة ..
إن أعضاءه تبدو في التشريح من مادة تقبل الوزن و القياس .. و تخضع للزمن ..
و لكن شعوره يكشف عن مادة أخرى و زمن آخر يعيش فيه غير زمن الساعات و الدقائق .. زمن حر يقصر و يطول حسب إرادته ..
و تعمق هذا الشعور في لحظات الحب و الإلهام و التصوف .. يكشف عن حقيقة أغرب ..
إن هناك أفقاً ثالثاً في داخله ..
أفقاً غير زمني .. لحظاته أبدية مليئة .. لا تنقضي مثل اللحظات و إنما تظل شاخصة في الشعور مالئة الوجدان ..
ماذا تكون تلك اللحظات ..
أتكون هي الثقوب التي تطل على سره ..
و ماذا يكون سره الخافي تحتها ..
أهو الروح ؟!! ..
و ما الروح ؟!! ..
إنها الحرية ..
الحرية جوهر الإنسان و روحه .. و من خلال محاولتنا لفهم الحرية سوف نقترب من فهم الروح ..

 



د. مصطفى محمود
كتاب : لغز الموت


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق