الجمعة، 28 أغسطس 2015

جسور نحو المستحيل



جسور نحوّ المستحيل ...


..

تُمزِّقُ أشعةُ الشّمس بخفةٍ وهدوء سترةَ الّليل الحالكة ، لكنها 

تُخفِقُ في إضاءة بريقِ عيون صبايا بمختلفِ الألوان ،  ناعسة باردة 

ارتسمتْ فيها نظراتُ ملل الانتظار ، انتظمتْ لفترةٍ في طوابير 

مزدحمة لمحاولة الحصول على غرفة في المدينة الجامعية ، ثم 

سادتْ العشوائية واختراق النظام  بواسطاتٍ مَنصِبِيّة تُحضِرْنَها بعض 

الفتيات ...


و لليوم الثالث على التّوالي تصافح وجناتنا خيوط الفجر الفضيّة التي 

نسجت سويعات يوم جديد ،  فنزدحم ونتموَّج كحجيج في مكاننا ، 

ونتسائل عن سبب هذه الأزمةِ هذا العام ، والعيون ناعسة 

والنفوس أنهكتها سلبية الانتظار والانتهاك ...



أخيرا أخذنا طلباتنا والموافقة بعد جهد جهيد ، وهرعنا إلى الوحدة 

السّكنية الرابعة عشر ، للحصول على الغرفة المُنتَظرة ....


ولم نكد نتنفّس الصّعداء حتى صدمتنا من جديد  رؤية فتياتٍ 

مزدحمات عند مدخل غرفة المشرفة ....


وعُدنا  ليحرقنا الانتظار بصقيعه...


 وزاد يومي إحباطا  وغضبا رؤية حارسٍ أبرص تكاد لا تظهر ملامحه 

من شدة البياض والبَرَص ،  يقف عند باب المشرفة ، وقد استغل 

نظرات الشفقة له ، فيمدُّ يدهُ ويتلمَّس ظهر وأكتاف كل فتاة يأتي 

دورها وتدخل للمشرفة ....


وبعد وقت بدا فيه الزمن ثقيلا رتيبا وخاليا من الحياة رغم الازدحام 

 والضجيج والغضب ، جاء دورنا أنا وصديقتي ...


دخلتُ بشكلٍ جانبي من الباب حتى لا يلمسني الحارس الأبرص  

وقلت له بلهجة حازمة  :


-         لا تلمسني أستطيع الدخول وحدي ...


وكانت صفعة صدمةٍ أخرى في غرفة المشرفة ، لم يتبقَ إلا جناح 

الغرف المُطِلَّة على وحدات الشُّبّان ، وهذا يعني ستارة سوداء 

سميكة مُسدلة ل 24 ساعة ....



وقالت المشرفة بابتسامة لا تفارق ثغرها  :


- بإمكانكم أخذ الغرفة 604 هي الوحيدة غير المُطلة على وحدات 

الشُّبان ، لم يأخذها أحد لأنها في الطابق السادس وتحت خزانات 

المياه ...



فتوكلنا واخترناها لأنهّا أحلى الأمرَّين ...



صعدنا الطابق السّادس وقد أنهكنا التّعب والانتظار ، لنُفاجئ ونُصدم 

أيضا بغرفةٍ سقفها أسود مقشور بِفعلِ رطوبة خزانات المياه فوقها ، 

وخيوط ارتشاح  بنية انسدلت من السّقف على الجدران كعروق جثّة 

يابسة  ...




حملنا بخيبةٍ  أغطية الأسِرَّةِ  والوسادات لغسلها ،  والبطانيات 

المتسخة التي تبدو كأغطية العسكر ، ونزلنا الأدراج مطأطئي 

الرؤوس    ...



أبو صديقتي يسألنا : -  هاه كيف الغرفة الجديدة ؟!!!


هي تقول : -  جيدة يا أبي ...



لم نرد أن نتذَّمر بعد صدمات يوم طويل وخيبة الغرفة 604 ...


وفي الباصّ الذي بدأ يشقُّ طريق بلدتنا متماهيا مع الهواء 

والإسفلت  والزمن وأفكاري ، همستُ لصديقتي :


-         عند أبي غرفة فيها علبة طلاء بيج وفراشي للدهان ، ما رأيك أن أحضرها لنطلي سقف الغرفة ؟؟  ونغطي الجدران بورق جدران جميل وجديد  ونتقاسم التكاليف من مصروفنا ؟؟


ارتسمت في عينيها ابتسامة الأمل  وهمست :


-         عند أمي ستارة جميلة بيضاء موشاة بوريقاتِ نبات الفَصَّة  الثلاثية الخضراء،  سأحضرها  !!!



دبَّتْ الحياة من جديد في أطرافنا بعد أن خدَّرتها إبرُ الصدماتِ 

الشائكة المتوالية هذا اليوم ...


 و بريشةِ فكرةٍ رسمنا أملا في الأفق وقوسَ المطر  ، فعُدنا نحمل 

أغراضنا ومؤونتنا ،  ونظفنا الغرفة بهمَّة  ، وبدأتُ بطليّ السّقف وأنا 


أدندن أنشودة جميلة ، وكانت تمرُّ طالبات السّكن وهُنَّ مستغربات 

ثم يثنين على صوتي وعلى عملنا ، ويهرعن لغرفهن ،  ومنهن من 


تستنكر :


-         لِمَ تطلين الغرفة وتبذلين الجهد والوقت والمال ،  إنها ليست لكما  وستسكنها  فتاتان غيركما العام القادم ؟؟


-         أطليها يا عزيزتي لأننا سوف نسكن فيها عاما دراسيّا كاملا ، نأكل وننام وندرس ، إنها كوطن صغير مؤقت أريده نظيفا جميلا  مريحا للنفس والفكر،  لا زنزانة سوداء مقيتة  ....




بعد الانتهاء من طلاء السّقف الأسود ، كانت النتيجة مذهلة لدرجة 


جعلتنا نضحك على رذاذ الدهان الذي ملأ وجهي وشعري ويديَّ ، 

ونسيتُ ألم رقبتي من كثرة رفع رأسي وأنا أستخدم الفرشاة ....


بدأنا بتغطية الجدران بورق جميل فيه تعريقات فُستقية تناسب لون 

الستارة ....


الغرفة كانت بأبعاد حوالي مترين ونصفX  3 م ،  فيها سريران على 

الجانبين ، وفي الصدر نافذة ، وعلى طرفي النافذة وعند أقدام كل 

سرير توجد مكتبة على شكل رفوف معها  طاولة وكرسي للدراسة  

، وملتصقة بالجدار ، وعند رأس كل سرير توجد خزانة فيها رفوف 

لوضع المؤونة ، وخزانة صغيرة من بابين ، للملابس ، ومغسلة ...


غلَّفنا المكتبتين بورق الجدران ، وكذلك الطّاولة وغطيناها بجلد 


شفاف حتى لا يتمزّق الورق أو يترطَّب ...



وبعد يوميّ عمل متعب ، وضعنا البطانيات المغسولة في الخزانة ، 

وغطينا الأسرَّة ببطانيات جديدة من منزلنا تتماهى مع لون الغرفة ، 

وعلقنا ثيابنا ورتَّبنا مؤونتنا على الرّفوف الموضوعة وراء الباب وعند 

المغسلة ...



أسدلنا السّتارة الجميلة ووقفنا على الشُّباك نراقب أشجار "الكينا " 

أو ما يعرف باللاتينية ب" الأوكاليبتوس"   أي المغطاة تماما ، نظرا 

لشكل الثمرة فيها ، والتي ملأت المكان خلف الوحدة السكنية ، 

وهي أشجار دائمة الخضرة قد يصل ارتفاعها  إلى 60 م  لدرجة إذا 

مددتُ يدي من نافذة غرفتي في الطابق السّادس  أستطيع لمس 

أوراقها زيتونية اللّون   ...



الغربان السوداء بنت أعشاشها بين أغصانها ، وجاورتها اليّمامات 

البرية ، فكنا نسمع نعيق الغربان ممزوجا مع هديل اليمامات  يصل 


لأذاننا لحنا غريبا جميلا بقيثارة أُمِّنا الطبيعة ومختلطا مع رائحة 

أوراق الكينا العتيقة التي تنفث أجواء الغابة في رئة المَدنيَّة والحضارة  
...


 وأشرتُ بيدي إلى غراب بطنه أبيض وجناحاه سوداوان ، وقلت 

لصديقتي :


-         هذا الغراب ذكر ، والأنثى تكون سوداء كاملة ...



ضحكت صديقتي واستغربت :-  لماذا ؟؟؟



-         حتى يجذب الأنثى ، فأغلب ذكور الحيوانات والطيور بعكس البشر ، تكون أجمل لجذب الإناث ...


قالت مازحة :


-         الحمد لله لم نأخذ الغرفة المُطلة على وحدات الشبان وإلا لما استطاعوا إغراءنا بدون بطون بيضاء ...


ضحكنا بفرحة  فتاتين مشاكستين لبرهة  ، أنجزتا للتوِّ شيئا عظيما 

، وحولتَا لعنة الغرفة 604  إلى نعمةِ عشّ جميل نظيف على 

مشارف أشجار الكينا الباسقة  ...


فالغرفة بدت كعلبة الكبريت الجميلة  المُغلَّفة ، والسقف بدا لامعا 


نظيفا جديدا ، لدرجة أني نمتُ وأنا أحدِّق فيه ، وبجانبي  دُبِّي 


المحشو الوردي الكبير الحجم  ، وقع على الأرض كعادتي  في كل 


ليلة أحضنه وعندما أغطُّ في النوم يسقط بجانب السّرير ...



ما أجمل أن نحوّل ما قد يبدو مستحيلا إلى حقيقة جميلة ! أو 

نمتصّ الخيبات المتوالية ونحولها في مجرى الدّم إلى دَفَعَاتٍ إيجابية 

لقلوبنا المُنهَكَة ، فبعض دروب الحياة قد تبدو مسدودة أو شائكة ، 

جميل أن نَرْصِفَها  - لنا ولمن يأتي بعدنا - ونحن نمشي في 

تَعرُّجاتها  ، ولا نتوقف عند الحُفر فيها ، بإمكاننا تجاوزها بقفزة  أو 

بجسر نبنيه فوقها للعبور ، فحياةٌ حَبَانَا خالقنُا بها حَريٌّ بنا الكفاحَ 

من أجلها لأنّها نعمة جميلة ...



 ****


بقلم : مؤيدة بنصر الله / نادية 


المطر


المطر ..






صوتٌ  ينقرُ بخفّةٍ  زجاجَ  نافذتي


تَكْ تَكْ  تكْ


رائحةٌ تتهادى إلى أعصاب شمّي


هاتِ لكْ ...


طفلي الصغيرُ المستغربُ يسألُني


ما كلُّ ذاكْ !


ذاك من نشتاقُ كلّ عام ٍ يا صغيري


تعال أُرِكْ !


والريحُ رَشَقتْ قطراتٍ بلّلتْ بشرتي



طَفِّي ظمأكْ !


بالمطر  !





أهلاً يا زائرَ نافذتي الزُّجاجيّةَ أيُّها العتيقُ  الجديدْ !


عسى قطراتِكَ اللؤلؤيّة  تُخْبِي لمعانَ نيرانِ الحقدْ


و هديرَ سيولكَ يمحو بجريانه آثام النفسِ والجّسد ْ


وعسى ضبابكَ  يُخفي آثارَ جرائمَ اقترفَها البشرُ 

باليدّْ






يا مطر !



أمُّكَ الغيمةُ بكتْ وبكتْ و بكتْ لأمد ْ


من قال أنَّ الدموعَ للضعفاءِ يا ولدْ !


من قال أنَّ الذكرياتِ للماضي البعيدْ !


ونسيَّ أنّها تحملُ في أحشائِها جنينَ الغدّْ





يا مطر !


يا براءةَ  طفلٍ حالمٍ! خافَ من برقِكَ والرعدْ


يا ابتسامةَ حزنٍ وحدقة ٍتوّسَّعَتْ شغفاً وودّْ


وعصافيرَ خبَّأتْ صمتها  بين أغصانِ الرَّندْ


وصيادينَ صارعتْ مجاديفُهم أمواجَ المد ّْ






يا مطر !


يا حاملَ الخيراتِ والنعم كما قالَ الجدّْ


لِمَ تنسحبُ وتبتعدُ عن طَرْقِ نافذتي باليدّ !


لِمَ يتخافتُ صوتُكَ ويختفي بثنياتِ السدّْ !


ارسمْ بريشتكَ ندىً على لون الزهرِ و الخد ّْ 

و بعودةٍ مباركةٍ  كم أنتظرُ صوتَكَ أنْ يَعِدّْ


فإلى نغماتِ طرقاتِكَ العذبة ورائحتِكَ سأفتقد ْ


يا مطر!






 *****



بقلم مؤيدة بنصر الله / نادية