الجمعة، 28 أغسطس 2015

خيوط من نور لا ينقطع



خيوطٌ من نور لا ينقطع ....




ترتجف يدها كمن وصل برد الجليد والصقيع حتى عظامه ، وشفتاها 

عاجزتان عن الكلم ، وبفزع تراقب عيناها الخطين الظاهرين  على 

أنبوب اختبار الحمل ...

-          لا ..  لا يمكن أن أكون حاملا ، لا أريد ن أكون حامل ، يا ربي ! ساعدني !


وهو يحاول أن يخفف عنها :

-          إنها مشيئة الله !

وضعت رأسها بين كفيها :

 لا تريد طفلا جديدا ... أكرمها الله بأطفال ملائكة ، ذكورا وإناثا .... ما أجملهم !

ولكن لن تنسى عذابها بالحمل بهم وبإرضاعهم ، بعدم نومها في 

الليل لبكائهم ، وبكفاحها لإزالة آثار الحمل  واسترجاع رشاقتها ، 

بمسؤولية تربيتهم ،  بخوفها عليهم عند ذهابهم للمدرسة ، وعند 

رجوعهم ، وعند خروجهم ، وحتى في نومهم ، تستيقظ لتغطيهم 

وتقرأ لهم الأذكار والتحصين .. بلهاثها عقدين من الزمن وراءهم ، 

ككلب  وفيّ ليس همه سوى إرضاء صاحبه ..

و الآن ، لا تدري أهي نعمة أم نقمة ، هذا الحمل المتأخر ..

رفعت السماعة  بجنون يتوشّح الهدوء :

-          ألو  .. كيف حالك يا  "غصون " !
أرجوك أخبريني ماذا فعلتِ حتى تجهضي طفلك الأخير ؟؟


-          لا حول ولا قوة إلا بالله  ! مستحيل أن أقول لك ، استهدي بالله وتوكلي عليه ،  كله خير من عند رب العالمين وألف مبروك الحمل ....



أغلقتِ السّماعة ، لكن الجنون كان يستعرُ في عينيها ، وخوف 

ممزوج مع حنق وقلق : ماذا تفعل ؟!!!

حاولت رفع أشياء ثقيلة ، وإرهاق نفسها علَّ الجنين يسقط لوحده ، 

لكنَّه ازداد تمسكا بجدار رحمها ، و رفض أن يتخلى عنها - رغم 

محاولاتها جاهدة أن تتخلى عنه -  ونشب أظافره الطرية في 

ظلمات أحشائها الثلاث معاندا رغبتها ...


وفي بداية شهرها الرابع استسلمت للواقع ، وقررت أن تراجع 

الدكتورة وتتابع معها الحمل ...


الطبيبة وهي تتفحص بعينها شاشة السونار :

_ ما شاء الله ! كل شيء بخير ، حجم الجنين ونبضه وحركته وكمية السائل حوله ، ولكني لا أستطيع أن أتبيَن جنسه ، فهو في وضعية السجود والحبل السري بين رجليه ، سبحان الله !! انظري !!


رفعتْ رأسها  ونظرتْ إليه ، وكان يبدو في وضعية سجود مهيبة ، ويرفع جبهته كل قليل ويعود للسجود ...


وهالها ما رأت ، فهذه أول مرة ترى هذه الوضعية  في حملها بأطفالها كلهم !!!

شيءٌ ما تحرَّك في قلبها ،  وأحسَّت بارتباط عجيب مع هذا الجنين 

،تضافر مع ندم شديد أنها فكرت في التخلص منه يوما ، وهو يسجد 

لله بفطرته ، وهي تتذمر ولا تحمده ولا تشكره ...


كم من امرأة تجلس في العيادة خارجا ، تراجع الطبيبة كي تستطيع 

أن تحمل بطفل واحد ، أو أجهضت طفلا وتريد أن تحمل ثانية ، وهي 

كانت تريد التخلص من طفلها ، أيُّ أمٍّ  ! وأيّ امرأة جاحدة هي !!!!!


تحشرجتْ الكلمات ، وضاعت المعاني وتاهت مشاعرها ، أمام رؤية 

نفسها العارية ، وأمام العيون التي كانت تحدِّق فيها وهي خارجة 

من العيادة وكأنّها تلومها ، وتكاد تسمع إحداهن تقول لها : " لم لا 

تعطيني طفلك أيتها الجاحدة ! "


وأخرى تهمهم : " أي امرأة وأمّ  كافرة بنعمة نحن نتمناها كلّ يوم !!! "


هزَّتْ رأسها وأغلقت آذانها بأصابعها وخرجت مسرعةً  إلى زوجها 

لاهثةً ، تتموَّج في عينيها نظراتٌ كقوس المطر مُتدرِّجة بألوان سبعة 

من : الذهول والتشتت و المحبة و الندم و القلق والخوف والرجاء  ....


وقالت :

-          عزيزي ، إذا كان الجنين بنتا : سنسميها " ساجدة " ، وإذا كان ولدا سنسميه : " ساجد " ...


وافقها على الفور وحمد الله أنَّ كل شيء بخير ...




مرَّتْ الشهور الأخيرة متعبة مرهقة ، وحان موعد ولادتها بعد تأخر 

أكثر من أسبوع ، وكأنه يرفض الخروج ، ويتشبثُّ بإصرار في أحشاء 

أمه ، حتى حانت لحظات المخاض الرهيب المؤلم ، وخرج إلى 

الحياة صارخا :  طفلا صبيا جميلا ، بسرعة أخذوه عنها بعيدا ، 

وصارت تنادي الممرضة لإحضاره ورؤيته ،  وبعد إلحاحها أحضرته لها 

وهي تحمله من الخلف ، ووجهه باتجاه أمه المستلقية ، وكان 

يبكي ، فقالت له بهدوء :


-          لماذا تبكي يا ماما لماذا ؟؟


ومدَّتْ يدها نحوه فأمسك سبَّابة يدها وأطبق عليها بقوة بيده 

الصغيرة الجميلة ، وكفَّ عن البكاء وهدأ ...

لن تنسى ما حَيِيَتْ عمرها هذه اللحظة ، ورابطة فريدة ربطت 

بينها وبين الصغير ، في تلك اللمسة وتلك اليد الصغيرة الطرية  ، 

التي أطبقت بقوة هائلة على إصبعها ...


بعد أن خلت به ، فكت ثيابه عنه وراحت تتفحص كل جزء من 

جسده الصغير حتى تتأكد أنَّ الله لم يعاقبها بأخذ جزء منه أو 

إنقاص إصبع أو تشوّه ما ... واستغفرت لربها ، وشكرته وحمدته 

كثيرا أن أعطاها طفلا كامل الخلق ..

كم من أشياء كثيرة تُفرض علينا في هذه الحياة ! ونظنُّ أنَّها شرٌّ 

لنا وأنَّ حياتنا ستكون جحيما معها ، ويتبيَّنُ لنا ولو بعد مدَّة أنها 

خير لنا بل وخير كثير ، وكنا بجهالتنا وعدم صبرنا وتسرِّعنا 

سنفقدها وتضيع منا ...


وكم من مرّة نظن أنّها النهاية ! فإذ بها البداية ، فلم لا نشكر ربنا 

في السَّراء والضراء ونتروى ولا نتعجل حتى نتبيّن خيوط النور في 

كل حكاية من حكايا حياتنا !!!



****


بقلم مؤيدة بنصر الله / نادية 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق