الجمعة، 15 يوليو 2022

الثقب الأسود

ثقب-أسود-هالة-أورا-شباب-حياة-كهولة- 

                                               الثقب الأسود



كان قد أتمَّ السابعة عشر بتلك الروح والعزيمة ،بتلك الهالة التي تحيط به وتجعلك منجذبا لذلك النور في جبهته وتلك الحياة النابضة في عينيه الزيتونيتين ،أتم السابعة عشر وقد أذهل معلميه بذكائه ،والأقارب والمعارف بسلوكه واحترامه وثورة الشباب المتقدة ...

كان يحل مسائل الرياضيات والفيزياء بسرعة وذكاء ويُصحّح الأخطاء وما يعصى على المعلمين في المدرسة ، وكان يساعد والده الفقير في العمل ويساعد زملاءه وكل من يسأله العون ،ولم يكن هناك حدود لتطلعاته وأهدافه ...

 نعم كان ذلك الشاب الواعد المثالي الذي توّقع الجميع أن يكون مستقبله باهرا ذا شأن ،وأن يترك بصمة في تاريخ البشرية ...

السابعة عشر إذن هي الخطوة التي تسبق آخر سنة في الثانوية ، السنة التي تحدد مستقبله في الجامعة والحياة والمسيرة المهنية والاجتماعية ،ولم يكن هناك خوف عليه فهو سريع البديهة وذكي ،سيحفظ عن ظهر قلب وسيحل كل المواد العلمية دون أدنى شك ، سيكون اسمه بلا شك من الأوائل المتفوقين وستكون كل اختصاصات الجامعة متاحة له ،وبدا المستقبل على بعد خطوتين مبتسما فاردا ذراعيه منتظرا  ليضمه إلى أحضانه  ....

إلا أنّ - ودائما هناك : إلا أنّ ، ولكن – كانت هناك بدايات تَحزُّبات جديدة في المنطقة ،والبلاد تترنح بضعف بين براثن السلطة والشعب ،ومُفترسات مُتربّصة تنتظر لحظة الانقضاض ،وشاب مثله كان محطَّ أنظار ؛فبدأت المغريات والتهديدات في حالة الرفض وحتى محاولات للاغتيال ، وبدأ الخوف والأمل والثورة والخنوع والألم والنشوة والعقل والرغبة يحبكون نسيجا قاتم اللون غطى تلك الهالة التي كانت تتوهج حوله ،وكتم الروح بقسوة ، وبدأ الشاب يترنح كالبلاد ، وفي يوم الاختبارات النهائية سقط مغمى عليه وبقي في غيبوبة طويلة ثم استفاق بعد الاختبارات وقد ضاعت سنة التخرج وضاع كل شيء في تلك اللحظة ....

ماتت الروح فعلا واختفت تلك الهالة ولم يعد قادرا أن يعيد الثانوية وكان أسهل الحلول بالنسبة له إغراءات الأحزاب تلك، فأخذوه بعيدا خارج البلاد ، جنّدوه  باسم الدين والوطن والمبادئ ،كان يعرف أنه مات والولادة الجديدة يجب أن تعيش ...

عاش شخصا آخر ...شخصا جديدا .... يكسب قُوتَ يومه من الكلمات الرنانة،واللعب في صدور البسطاء بقذف خطابات الدين الزائفة وفتاوي مارقة ودعوات بدت صادقة ....

الآن على مشارف الستين عاما التي ابتلعت السابعة عشر كأفعى تنقض فجأة تبتلع الفريسة ثم تستغرق طويلا لهضمها ، لم يتبق من فتى السابعة عشرة إلا الحمض النووي للجسد ، تغيّرتْ حتى الصفات الجسمانية ،جسد بدين و شعر أبيض أسقطت الأيام معظمه ،عينان عسليتان مُجهدتان لا حياة فيها ،أعملت التجاعيد أظافرها على الجبهة وتحت العينين ،والشيخوخة استراحت في المفاصل والعظام ....

هل كانت اختياراته من قتل الشاب الواعد وهالة الحياة في الروح ؟ أم  كانت الأقدار التي ساقت في دربه تلك التَّحزُّبات والمفترسات ؟

هل قتلت الحياة تلك الحياة الصغيرة قبل أن يحضنها المستقبل الذي كان واقفا هناك على بعد خطوتين ؟ أم قرارات ذلك الشاب من اغتالت مستقبله قبل أن يحضنه؟

لا أعرف حقا ... أعرف فقط أن تلك الهالة العظيمة صارت ثقبا أسود ابتلع كل شيء ، وحزنتُ جدا .... حزنتُ جدا....

 

  ......


بقلم :نادية محمود العلي