الجمعة، 30 أكتوبر 2015

ديمة و مغامرتها العجيبة- قصة قصيرة-

 
 
 
ديمة و مغامرتها العجيبة
******
يقولون القراءة تضيف اعمارا و حيواتا , و اقول القراءة هي العمر والحياة..!!!
لم تتخيل يوما أن القصص التى تعج بالاساطير و الخيال يمكن أن تتجسد حقيقة على ارض الواقع , بل و ربما ايضا تصبح هي نفسها ذات يوم بطلتها.
 
ديمة ,, فتاة صغيرة ذات سبعة عشر ربيعا ,وحيدة والديها المسنين.
 كزهرة ندية ,, او كزمردة نادرة مصون , احتفظ بها والدها داخل جدران بيته الصغير عند اطراف الغابة , خوفا عليها من طمع الطامعين وعبث العابثين , فلم يُسمح لها يوما بالاحتكاك بالحياة سوى عن طريق فيض الكتب الغزيرالتي كان يجلبها لها كهدية من كل بلاد العالم التي زارها بحكم اسفاره , فهو تاجرا يطوف سائرالبلاد ليبيع منتجات بلاده و يشتري اخرى ليبيعها هنا و هناك من جديد.
بكل اللغات ,, مكتبة تزخر بالكتب و القصص القيمة و النادرة التي خُط بعضها باليد خصيصا للصغيرة بأمر من والدها ,كان لها عميق الاثر في شخصية صغيرتنا و ثراء معرفتها, فبرغم من انها ما برحت جدران بيتها يوما إلا أنها و بفضل الاطلاع اصبحت على دراية و خبرة تفوق من هم بعمرها بل و من هم اكبر منها سنا.
على مدى سنوات عمرها,و بينما كان اقتحام عالم الخارج حلم يراودها الا انه لم يتسرب الشعور بالوحدة الى قلب الفتاة مطلقا , فقد كان الكتاب لها خير رفيق , بالاضافة الى طيرها الزاجل الذي كانت تشتم عبير نسمات الحرية عند رفرفة  اجنحته كلما غادرها نهارا و عاد ليبيت معها ليلا. 
لكن ,,,و يبدو انه لابد دائما من لكن  ,, لا تسير مجريات الامور بالحياة كما نرسمها نحن بل تتدخل انامل القدر لترسم لنا دروبا ما ظننا يوما أن بمقدورنا السير فيها لتجبرنا على اختراق مخاوف سكنت عقولنا و ارواحنا فتضعنا امام تحديات مصيرية نملك فيها وحدنا القرار و الخيار ,,
 لمن الغلبة في معترك الحياة ,, لنا,, ام لمخاوفنا ..!!؟
 
حدث هذا عندما كان والدها في رحلة عمل من رحلاته خارج البلاد , و التي و كالعادة ربما يصل غيابه فيها لشهور, اصيبت والدتها بمرض نادر , تدريجيا الزمها الفراش بلا حراك و لا نطق , فقط بعينيها تتبادل الحوار مع صغيرتها التي اصرت على أن تنقذها و تمد لها يد العون بكل ما اوتت من قوة حتى إن استدعى الامر منها مخالفة رغبة والدها و الخروج الى الحياة بحثا عن دواء ناجع لامها المسكينة ,, وقد كان ,,
و بينما طال غياب والدها , و عندما استنفدت مخزونها  من الصبر, بل و كل الاساليب التقليدية لعلاج امها الطريحة , قررت ديمة أن تقترب من باب منزلها و تقتحم عالم الخارج , بعد أن ودعت والدتها بنظرات ثقة و مثابرة تحاول من خلالهما طمأنة نظرات التوسل و الفزع في عيون امها التى عبثا تحاول اثناءها عن ما هي مقدمة عليه.
مع شروق الشمس و في الخارج كانت الامور تسير وفقا لتوقعات الصغيرة فالاحداث لم تكن سوى صورة رأتها بخيالها مرارا و تكرارا و ان كان للواقع بما يحمل من ترقب للقادم مذاقا اخرا.
على بعد بضع اميال من منزلها بدأت منازل سكان القرية بالظهور
و هناك سألت الباعة و المارة عن افضل من يمكنه مساعدة امها المريضة , و قد اجمع الجميع على أن السيدة العجوز التي تسكن عند طرف القرية هي افضل حكيمة , وقد تمكنت من علاج اعصى الامراض خلال مسيرة حياتها لكنهم اجمعوا ايضا انها من المستحيل أن تصحبها الى منزلها لكبر سنها و صعوبة حركتها .
اصرت ديمة على لقاء العجوز الحكيمة على الرغم من كلام سكان القرية املا في ان يرق قلبها لحالها  فتصحبها لزيارة امها المريضة .
و بالفعل توجهت ديمة الى بيت السيدة العجوز متبعة وصف القرويين حتى وصلت الى هناك عند الظهيرة.
ثم اقتحمت حديقة المنزل التي بدا فيها على الجانبين تشكيلة من النباتات العطرية القصيرة التي اضفت على المكان رائحة مريحة و محببة
بعد عدة طرقات على باب منزلها فتح صبي صغير عرفت ديمة فيما بعد انه حفيد السيدة الحكيمة و مساعدها و هو ايضا تلميذها النجيب .
بالداخل لفت انتباهها مجموعة الزواحف و الاعشاب المجففة و المعلقة على جدران المنزل بالاضافة الى طاولة كبيرة وضع عليها الكثير من الزجاجات المملوءة بسوائل مختلفة الالوان كما شاهدت في احدى الزوايا مكتبة ضخمة تحوي مجموعة كبيرة من الكتب اغلبها ذات غلاف مهترء و اوراق صفراء.  
بعد برهة من الانتظار التقت بالسيدة و شرحت لها وضع امها الصحي و توسلتها أن تصحبها لمنزلها الكائن عند طرف الغابة لتتفحص امها العاجزة تماما عن الحركة , و لم يكن رفض العجوز هو الشيء الوحيد الذي علمت ديمة من خلاله استحالة حدوث الامر فقد رأت بعينها صعوبة حركة السيدة المسنة داخل منزلها.
لكن سرعان ما تبدلت مشاعر اليأس التي انتابت الصغيرة الى اشراقة الامل عندما اخبرتها الحكيمة أنه يكفيها وصف اعراض مرض والدتها بدقة و  تفحص حفيدها لها حتى تقرر الدواء الشافي بأمر الله .
بعد نصف ساعة قضتها الفتاة في وصف تطورات اعراض مرض والدتها بداية من الحمى و ظهور بقع وردية على الجلد و حتى عجزها عن الحركة و النطق , امرت الحكيمة حفيدها بمصاحبة الفتاة الى منزلها لتفحص والدتها ثم يعود لها بالخبر بأسرع وقت.
شكرت ديمة السيدة الحكيمة عندما ودعتها و انصرفت مسرعة عائدة الى منزلها بصحبة الصبي .
مع الغروب كانت قد وصلت الفتاة الى منزلها , و بينما يباشر الصبي في فحص الام كانت  نظراتها تحمل من الريبة والتعجب الكثير
– فمن هذا الصغير الذي احضرته ابنتي ليفحصني , و هل حقا بمقدوره المساعدة ..!!؟- " هذا ما دار بخلد الام من تساؤل"
قام الصبي بمهمته بمهارة و كما ينبغي و دون بمفكرته بعض ملاحظات ثم استأنف رحلته في العودة ليخبر الجدة بتفاصيل ما قد شاهد بعد أن طلب من الفتاة أن تعود غدا صباحا لمنزل جدته كي تخبرها بنفسها بالنتائج.
قضت ديمة ليلتها و هي تصارع مشاعر القلق على والدتها بالدعاء حتى استسلمت للنوم بعد منتصف الليل .
في الصباح و مع اشراقة خيوط ضوء النهارالاولى , انطلقت لموعدها مع الحكيمة و عندما وصلت كانت هناك بالفعل في انتظارها.
بمنتهى القلق سألت ديمة : هل استطعت تحديد ما هي حقيقة مرض امي ,,, و هل من علاج له ؟
نعم يا صغيرتي ,,لن اخفيك قولا,, فبكل اسف ,, والدتك مصابة بنوع نادر من الحساسية و فقد المناعة  و سرعة العلاج مهمة جدا في حالتها " قالتها الحكيمة و مشاعر الاسى واضحة عليها"
هل انت على يقين من هذا ؟ "سألت ديمة و هي  باكية و الالم يعتصر قلبها"
هنا تناولت الحكيمة كتاب من على المنضدة و عرضت عليها بعض صور من رسمها توضح مراحل المرض و اعراض الاصابة به .
و عندما وجدت ديمة تطابق كل الظواهر مع حالة والدتها,,,,
 سألت :هل توصلت الى علاج حالات مشابهة ؟
اجابت الحكيمة : في حياتي و محيط خبرتي لم ار بعيني كحالة والدتك , لكن قرأت ان هناك طبيب عالج تلك الحالة و تم الشفاء بفضل من الله .
بلهفة مسحت ديمة دموعها وسألت:  اين هو الطبيب و ما هو العلاج ؟
هدأي من روعك صغيرتي  ,, اخشى أن الامر ليس بهذه السهولة " أجابت الحكيمة"
ثم اردفت – حدث هذا منذ زمن , و قد سجل الطبيب المعالج الحدث بكتاب له-
فقط يا صغيرتي يمكنني أن اخبرك عن العلاج الذي دونه الطبيب و اشار اليه بكتابه , لكن حتى الوصول الى العلاج يعد امرا في غاية الصعوبة و يجب أن تكوني على قدر كبير من التحمل و الشجاعة لتحصلي عليه ..!!!
بثقة اسرعت ديمة قائلة : نعم الحمد لله ,, انا على اتم الاستعداد للتضحية بروحي في سبيل انقاذ امي من بين انياب هذا المرض اللعين .
حسنا ,, اذا استمعي لي جيدا,, فعلاج والدتك يتكون من مشروب هو مغلي العشبة الخجولة و دهان من خليط خاص يعتمد في تحضيره على ماء الحياة .
 
ثم طوت الحكيمة بعض صفحات الكتاب و عرضت على الفتاة صورة للعشبة الصغيرة النادرة و التي لا تنمو الا بسفوح الجبال البركانية و في ظروف خاصة و اخبرتها ان تلك العشبة لا يوجد منها الا في الغابة المقابلة لمنزلها و ان بالغابة ايضا بئر الموتى التي ماؤها يحمل تكوينة خاصة نافعة لعلاج والدتها.
 و اخبرتها ان اقتحام الغابة تلك ليس بالامر الهيين او اليسير بل هو محفوف بالكثير من الصعاب و المخاطر .
انهت الفتاة زيارتها للحكيمة شاكرة صنيعها بعد أن ترجتها في ان ترسل حفيدها ليعتني بوالدتها اثناء غيابها و ريثما تعود من رحلتها الى الغابة
ودعت الحكيمة ديمة ,على وعد منها بأن تلقى والدتها كل اهتمام و رعاية حتى تعود من الرحلة سالمة غانمة .
عادت ديمة الى منزلها و قضت ليلتها في الاستعداد لرحلة الغد و اقتحام الغابة المجهولة .
مع الصباح ودعت ديمة والدتها وحملت حقيبة قد وضعت بها قليلا من الخبز و قنينة ماء بالاضافة الى  صندوق خشبي و حبل و سكين صغيرة و علبة من اعواد الثقاب , كما اصطحبت طيرها الزاجل و بدأت رحلتها ب اسم الله.
كان صباحا تشرينيا يشي بالغزير من المطر, فالسماء ملبدة بالغيوم , و الضباب يلف الارجاء فيعيق الرؤية لأكثر من متر
و على الرغم من مخاوف صغيرتنا التي عززتها تلك القصص القديمة عن الغابة و هذه الاجواء المهيبة إلا انها استمرت في التقدم نحو الغابة داعية ربها مستأنسة بطيرها .
و بينما بدأ ينقشع الضباب شيئا فشيئا بدى لها من بعيد سياج الاشجار العملاقة المحيطة للغابة, حينها زاد شعورها بالخوف و الرهبة و ازدادت ضربات قلبها ولكن لم يثنيها ذلك عن اقتحام المجهول فيما وراء ذاك السياج , فلها هدف سام تبذل روحها له فداء.
كان للمرور بجوار اشجار الزيزفون وقع في نفسها يتمازج ما بين الانبهار و الرهبة و رويدا رويدا تلاشى الخوف عندما لمست باناملها الصغيرة اللحاء الرمادي الاملس  لتلك العجوز العملاقة ذات الاوراق القلبية الوارفة رغم قسوة الاجواء في مثل هذا الموسم  و تأملت بإعجاب تلك العناقيد الصفراء الباهتة المتدلية منها
لم تترك ديمة لنفسها المجال فقد كانت تعلم ان امامها هدف عليها انجازه في اسرع وقت ممكن فأستمرت في التوغل داخل الغابة بلا هدى بيد ان المناظر حولها كانت لا توحي ابدا ببشاعة القصص المنتشرة بين القرويين انذاك مما ازال الرهبة من صدرها ليحل مكانها فرح بتحقيق حلما لطالما راودها و إن كانت غصة مرض امها ما برحت حلقها قط
كانت الفراشات تحلق حولها بالوانها الزاهية و صوت الكناري و الببغاوات يصدح في كل زاوية و على كل غصن أما قبائل القرود , التي كانت تتغذى على الفاكهة والثمار , فقد كانت بمثابة جمهور الغابة الأكثر مرحاً فهي لا تكف عن اللهو والتشقلب في أعالي الأشجار وتدبير المقالب لبعضها البعض وسط فيض من الحركات البهلوانية الماجنة والصيحات العربيدة
عندها ظهر امامها جدولا تجمعت حوله بعض سنونوات و كانت الشمس قد بلغت الزوال فشعرت ببعض التعب و قررت اخذ قسطا من الراحة و تناولت بعض الخبز لتستأنف بعدها رحلتها من جديد
جلست ديمة بقرب الجدول و تأملت منبعه من بعيد و قد كان جبلا شاهقا يتوسط الغابة حتى أن قمته كانت تظهر بوضوح لبيوت القرى المجاورة للغابة و قال البعض انه كان بركانا ثائرا فيما مضى و قد كان هو ذا هدفها ,,,تناولت المسكينة بضع لقيمات و كان الشرود و التفكير في القادم و ما يحمل من مجهول يخلق بنفسها العديد و العديد من الاسئلة ,,,
 بعد الانتهاء من وجبتها نهضت ديمة لتهم بمواصلة المسير عندما لمحت خلف اغصان الاشجار و على بعد خطوات منها بيتا خشبيا صغيرا.
اقتربت ديمة من البيت في خطوات حذرة متأنية و هي متوجسة خيفة فهي لا تدري إن كان البيت مهجورا ام مسكونا و إن كان مسكونا فمن يا ترى ساكن هذا البيت..!!؟
و هل يمكن ان يفيدني في البحث عن العشبة الخجولة و بئر ماء الحياة ..!!؟
 كلها اسئلة كانت تدور برأسها و هي تتقدم ببطئ تجاه البيت محاولة كشف غموضه.
و بينما تقترب من الكوخ الخشبي سمعت نباحا لكلب فأدركت أن بالبيت احدهم و قررت ان تطرق الباب علها تجد لديه ما يفيدها ,,
طرقت ديمة الباب طرقة مرتعشة صدر عنها صوتا خافتا يكاد لا يُسمع ,, او ربما يحتاج لمن هو بمهارة خاصة كي يسمعه .
على الفور ازداد نباح الكلب و شعرت بأقتراب احدهم من خلف الباب يحدث بعض جلبة اثناء سيره .
من ,,,, من هناك ,,, رد ايها الطارق ,, من انت و ماذا تريد ؟
صدرت تلك الكلمات التي تخللتها نوبة سعال من ساكن البيت و قد كانت بنبرة حادة تخفي في طياتها ذعر شديد -
انا ,, انا ديمة ,, فتاة اسكن بالقرية المجاورة للغابة ,, جئت اطلب المساعدة ,,, كان هذا هو رد الفتاة
غاب الرجل  لبرهة ثم سمعت ديمة صرير الالواح الخشبية لارضية المنزل الذي يصدر مع كل خطوة قدم للرجل فعلمت انه عاد  ثم فتح الباب الذي كان موصدا بعدة مزاليج و اقفال و في حركة سريعة جذبها للداخل و اغلق الباب بالمزاليج مجددا
وجدت ديمة نفسها امام رجل مسن دائم السعال جاف الطباع رث الهيئة ضرير البصر يحمل بيده عصى و خلفه كلبه المسن كماه و الذي لا يكف عن النباح
و وسط كوخ خشبي متهالك شبه مظلم تفوح منه رائحة عفونة
هيا ,, انطقي ايتها الفتاة ,, ما هي المساعدة التي تحتاجين ؟ سأل المسن ديمة
قالت ديمة : امي مريضة و علاجها هو العشبة الخجولة و ماء من بئر الحياة ,,اخبروني ان مطلبي هنا بالغابة ,,,,
 فهل تملك مساعدتي ؟
رد المسن : اسكن هنا منذ زمن ولا اخرج من منزلي الا لجني بعض الثمار و جلب الماء من الجدول من اجل طعامنا و شرابنا انا و رفيقي هذا – يشير للكلب – و لا علم لي عن ما تتحدثين
,, بصوت خافت يملئه الرعب اردف المسن ,,
 و اسمع من حين لأخر قرع طبول و صياحا من بعيد مصحوبا برائحة حرق بخور و اخشاب كافور ,, ربما يكون قادما من عند الجبل بوسط الغابة ,,, لا ادري ,, لا ادري ,,
 هيا ,, هيا ,, اغربي عن وجهي و ليتك تعودين من حيث اتيت
هيا اغربي ,,,
بعد تلك الكلمات المضطربة, فتح المسن باب منزله و دفع ديمة للخارج فجأة كما جذبها قبلها فجأة ...!!!
ذهلت الصغيرة من امر ذاك المسن العجيب ,,, فكيف لانسان ان يتكيف مع مخاوفه الى هذا الحد , بل و يستسلم لها بالقدر الذي يجعله يتعايش معها ,  فيصبح حبيسها , ثم تتسرب داخله حتى يتنفسها تحت جلده ..!!؟
في الخارج وجدت ديمة طيرها في انتظارها لينضم اليها من جديد فى رحلتها للبحث عن عشبة سفح الجبل الخجولة و بئر ماء الحياة .
و بينما تكمل ديمة المسير و التوغل داخل الغابة لاحظت أن الطيور
 
تأوي الى اعشاشها و بدأت بعض الزواحف في الخروج من جحورها 
 وكانت الشمس توشك على الغروب , فاسرعت الى توديع طائرها حتى يستدل طريق العودة الى المنزل قبل غياب ضوء الشمس .
تحت شجرة ضخمة من اشجار الغابة خلدت ديمة سريعا الى النوم بعد ان استودعت الله طيرها فقد كان يومها بالغ المشقة و كانت شديدة الارهاق .
و فجأة تسربت رائحة بخور نفاذة الى انف ديمة و سمعت من بعيد صوت قرع طبول و صياح , فاتجهت في خطوات مذعورة تجاه مصدر الصوت و الرائحة و كلما اقتربت منه زاد الصوت و الرائحة حتى وصلت الى هناك لترى بعينيها اغرب مشهد يمكن ان تراه في حياتها , و على الرغم من ان دخان حرق البخور يعيق الرؤية الا انها شاهدت مجموعة من الرجال الضخمة البنية يحملون بأيديهم فُئُوسا  و يقفون كحراس في تأهب و ترقب عند اطراف باحة شاسعة محاطة بسياج من ريش طاوس عملاق الحجم ومن بين السياج رأت جمعا غفيرا, نساء و رجالا يرتدون ثياب فاخرة و كأنهم مدعوين لحفلة فارهة و البعض يرقص بثياب شبه عارية  و على منصة من بعيد رأت رجلا جالسا على عرش وثير يعتمر تاجا ملكيا في بهاء شديد و تجلس بجواره حسناء صغيرة السن يبدو عليها الانزعاج و امارات عدم الارتياح ,, بعد قليل انقضت مراسم الحفلة الغريبة المريبة لتبدأ طقوس اكثر ريبة و غرابة  ,,,
فقد شاهدت الحسناء مقيدة تساق الى "المذبح"-بناء شبه مرتفع وسط الباحة تُقام عنده طقوس وثنية- و بينما تعالت قهقهة الحضور و تهنئتهم لبعضهم البعض  سمعت احدهم يُقال له مسرور يصيح قائلا بكل فخر و حماس و هو ممسكا بالسيف : الليلة هي السابعة و الخمسون بعد المائة الثالثة و يسعدنا ان نتقدم لمولانا الشهريار بخالص التهنئة على عروس الليلة التي زفت اليه و بسيفه المبارك الموقر نجدد ولاءنا و عهدنا معه و له بالتضحية برأس تلك الحسناء ,وليكن دمها النازف مسك و عنبر على درب طاعتنا له
لم تسطع ديمة كتم صرخاتها المفزوعة و هي تركض بعيدا عن تلك الجماعة الغريبة الاطوار بينما لحقها احد الحراس و القى القبض عليها و ساقها الى مولاه ليبشره بعثوره على عروس حسناء لليلته التالية  
و بفرحة عارمة و تهليل جماعي تم تقيد ديمة استعدادا لتهيئتها لحفلة زفاف الغد و تتويجها كعروس للشهريار , ثم ساد الصمت عندما طلب مسرور من حسناء الليلة ان تتوجه بالشكر و الدعاء لمولاه الشهريار
وسط الصمت المطبق كانت اللحظات تمر ببطء شديد بينما الانظار كلها متجهة صوب الحسناء المسكينة و في انتظار ان تنطق بكلماتها الاخيرة لتلقى بعدها حتفها كغيرها ممن ساقهم القدر الى تلك الجماعة الغوغائية الهوجاء
و على الرغم من مشاعر الخوف المسيطرة عليها الا انها صرخت بنبرة مرتعشة في شهريار الجماعة متهمة اياه بجنون العظمة و الحمق و الهمجية
عندها صرخ شهريار  في اعوانه-افصلوا راسها عن جسدها بلا رحمة تلك المتغطرسة علها تكون درسا و عبرة لمن تسول لها نفسها ان تتطاول على شهريار الزمان-
و على الفور و وسط قرع الطبول , هم اتباعه من كل زاوية يسارعون لتنفيذ امره حاملين  فُئُوسهم  ليصل السريع منهم و يضرب بفأسه عنق المسكينة فترطتم رأسها بديمة  و تندفع الدماء في كل اتجاه بشدة لتغطي وجهها
و بينما ترفع ديمة يدها لتمسح وجهها و تتحسس رأسها افاقت من نومها لتكتشف انه لم يكن سوى محض كابوس مرعب ربما ساقته لها اجواء الغابة المهيبة او قصة ذاك الرجل المسن .
و كانت هناك عاصفة ممطرة مصحوبة ببرق و رعد شديدين
فاعتدلت ديمة سريعا في جلستها و وجدت بجوارها حبة من جوز الهند  كانت قد سقطت من الشجرة و ارتطمت برأسها اثناء نومها فالتقطتها و حقيبتها و هرعت تبحث عن مكان تستظل به ليحميها من المطر
سُرت ديمة عندما وجدت و على بعد خطوات  منها كهفا , فاسرعت اليه و هي تتمتم في نفسها  - لك الحمد يا  الله فهذا اكيد بفضل دعاءك امي ,, اه ,, ترى كيف حالك يا امي؟
في الكهف حاولت ديمة التخفيف من ملابسها المبتلة و اخذت بوضعهم فوق الصخور حتى تجف سريعا , و كانت الشمس على وشك الشروق   
  جلست القرفصاء في احدى جنبات الكهف لتتناول ثمرة جوز الهند بعد ان كسرتها و هي تتحسس رأسها الذي اصيب على اثر سقوط  الثمرة و كان البرد قارصا,
ظلت الاحداث التي مرت بها سواء بالصحو او بالمنام تتلاحق بمخيلتها لتثير الكثير من التساؤلات بشأن تلك الغابة الغامضة
لتفيق من شرودها بعد برهة على شقشقة العصافير و توقُف المطر  و كانت الشمس قد اشرقت على الغابة لتنشر بعض الدفء و لتعلن انقشاع الليل بمخاوفه و تجلي وجه النهار المصحوب بالامل في العثور على ضالتها
عندها تذكرت موعدها مع طيرها الزاجل فهمت بالعودة الى حيث ودعته بالامس ,, تركت الفتاة معطفها ليجف و سارعت الى لقاء الطائر المسكين
و هناك وجدته بغصن الشجرة ينتظرها في وفاء , فاحتضنته  و كلها يقين انه نفذ مهمته في طمأنة امها عليها بنجاح  فشكرته و شكرت الله ان طائرها وصل اليها سالما و نجا من تلك العاصفة الشديدة
عادت ديمة الى الكهف و على كتفها طيرها الوفي , و هناك ارتدت معطفها الذي ما لبث ان جف و حملت حقيبتها و خرجت , و كانت اعراض الرشح قد ظهرت عليها من جراء عاصفة الليل السابقة
وقفت ديمة عند مدخل الكهف تتأمل المكان حولها و كانت قد عزمت امرها ان تتجه صوب الجبل الذي يتوسط الغابة و قالت في قرارة نفسها
"ان شاء الله اجد العشبة الخجولة عند سفح الجبل و ان استطعت اعتلاءه ربما يمكنني ان ارى ابعاد تلك الغابة بوضوح اكثر و اتمكن حينها من العثور على بئر ماء الحياة"
و بالفعل توجهت مسرعة في اتجاه الجبل و اتخذت من الجدول دليلا لرحلتها اليه  فهي تعلم ان منبع الجدول عند الجبل
سلكت الطريق بمحاذاة الجدول و كان متعرجا كثير الانحناءات , و بعد مسيرة ساعة بلغت و اخيرا الجبل
و بينما تبحث الفتاة عن طريق امنة تمكنها من اعتلاء الجبل بسلامة تفاجأت عندما غادر كتفها  طيرها الزاجل ليعود و يشير عليها بطريق بدا انه شبه ممهد
عند الظهيرة كانت قد تسلقت ديمة قدرا لا بأس به من الجبل عندما وجدت تحت اقدامها مساحة كبيرة تنمو على انحنائاتها العشبة الخجولة و هي تشبه تماما الرسمة التي عرضتها عليها السيدة الحكيمة.
وكلما مدت يدها لتلتقط باقة من العشبة تجدها تنحني و تراوغ في الاتجاه المقابل لتحدث دغدغة رقيقة لقدميها فتظهر الباقات و كأنها تتراقص  في خفة و دلال .
تعالت ضحكات ديمة و كانت سعادتها غامرة و هي تلتقط باقات العشبة من الارض و تحملها لتحتفظ بها داخل صندوقها الخشبي في حقيبتها ,, و عندما استكفت واصلت تسلق الجبل حتى بلغت موضعا يسمح لها بالاطلاع على الغابة.
و هناك كانت دهشتها بالغة عندما رأت في الجهة الغربية للغابة و خلف الجبل مكانا يشبه تماما تلك الباحة التي رأتها بمنامها في الليلة السابقة.
على الفور نزلت مسرعة عن الجبل متجهة نحو تلك الباحة و كانت مشاعر الهلع تسيطر عليها و هي تتجول بين ارجاء المكان.
نعم نعم , هذه اطلال العرش , و هناك بقايا من سياج الريش , و هنا كانت منصة المذبح , رحماك يا رب , ما هذا ,ماذا يحدث ..!؟
كانت تلك هي كلماتها التي رددتها أثناء تأملها لتفاصيل المكان عندما لاحظت امكانية ازالة غطاء عبارة عن صخرة  عليها اثار دماء بدا انها جفت منذ زمن من فوق منصة المذبح.
بجهد شديد حاولت دفع الصخرة مرة تلو الاخرى حتى نجحت بصعوبة في تحريك جزء منها لتكتشف انه البئر المنشودة.
على الفور تناولت من حقيبتها القنينة و ربطتها جيدا بالحبل ثم رمتها في البئر وكانت سعادتها غامرة عندما  جذبت القنينة و خرجت من البئر مملوءة بالماء .
اغلقت القنينة وحملتها بحرص شديد , ثم اسرعت لتبدأ رحلتها في الخروج من الغابة قبل ان يحين وقت الغروب .
اثناء العودة كانت المشاعر تختلج في نفسها , فتارة تشعر بالفرح لنجاحها في تحقيق هدفها , و تارة يغزوها القلق بشأن الوضع الصحي لوالدتها, و اخرى تنتابها هواجس الشك ,, فماذا لو كان تقييم الحكيمة للمرض غير صحيح و لم تشفى والدتها ..!!؟
لكن خليط المشاعر ذاك المتصارع داخلها لم يطغى البتة على كونها فخورة جزلى بكونها قهرت مخاوفها  و ما استسلمت لها قط.
في طريق عودتها لم تجذب الغابة بتفاصيلها اي من انتباهها فقد كان جل تركيزها على الخروج من الغابة بأسرع ما يمكن .
و بالفعل قبل مغيب الشمس كانت قد بلغت سياج الاشجار العملاقة المحيط بالغابة .
ثم واصلت المسير متجهة الى منزلها بعد أن القت نظرة وداع على الغابة التى اقتحمتها و خرجت منها و ما فكت طلاسم لغز غموضها .
تتزايد ضربات قلبها مع سرعة خطوات اقدامها كلما لاح لها من بعيد باب منزلها, لتستمر في السير قدما حتى وصلت باب منزلها و قد بلغت من الاعياء اقصاه.
في المنزل كانت مازالت والدتها على حالها طريحة الفراش , اما حفيد الحكيمة فقد كان يعتني بها على خير وجه.
سلمت ديمة باقات العشبة الخجولة و قنينة ماء الحياة للصبي , ليسلمهما بدوره للسيدة الحكيمة حتى تعد منهما الدواء اللازم لوالدتها , بعد أن قبلت بلهفة و شوق يد امها و جبينها .
قضت ديمة ليلتها ممسكة بيد والدتها متأملة عينيها و هي تدعو الله ان تكون مساعيها قد كللت بالفلاح و ان ينعم على والدتها بالشفاء و العافية .
و كانت قد تعلمت درسا من مغامرتها  في الليلة السابقة لن تنساه ابدا.
تعلمت أن على الانسان أن يجتهد و يقهر مخاوفه و  يسعى مساعيه في درب الحياة حتى و إن كان  يجهل هل النجاح هو محصلة عمله ام الفشل..!!!
 
 
بقلمي/ نسرين مصطفى