الخميس، 11 فبراير 2021

من بؤرة الإعصار

خواطر- قصص -شغف-حياة موت - 

من بؤرة الإعصار



ها هو ضوء النهار يحاول كنس عتمة الليلة المتقهقرة للتوّ، وقطيراتُ الندى تنفث ضبابا متصاعدا وهي تتبخّر من حضن الثرى تتلوّى مع انكسارات الضيّ الوليد ...

في تلك اللحظات توقفت السيارة عند تقاطع الطرق على نذير الضوء الأحمر ، وراحت عيناها تراقبان أضواء السيارات الباهتة مع انفلاقة الفجر الخديج ، فبدت أضواء السيارات كالعيون بمختلف الأشكال : هذه تبدو غاضبة وتلك مبتسمة ،وهذي مسالمة وتلك تبدو شريرة كساحرات الرسوم المتحركة ...

وبدت السيارات بأضوائها و بازدحامها كأمواج نهر تجرف في طريقها لآلئ مضيئة وترشق صدر السماء بانبعاثات الكربون ...

تبدو اللحظات بطيئة إلى حين سطوع الأخضر ثم تنطلق السيارة تطوي الإسفلت وراءها ،تميل عند ذاك المنحنى ،وتتخطّى عامل النظافة عند تلك الزاوية ،وتتنشّق ذات الرائحة عند ذاك المنعطف ، ثم تأخذ الطريق في عكس اتجاه الشروق ، وهنا تبدأ ملامح الأبراج البعيدة تظهر من بين سحاب مهيب ، يبدو كأنّه دخان عند الأفق ، وفي كلّ مرّة تعتقد أنها عاصفة هوجاء تتجه نحو المدينة ، إلا أن الأيام والروتين علّماها أنّه مجرد دخان رمادي أو سحاب يغشى الأفق عند شروق كل يوم ،فتبدو أبراج المدينة فيها شاهقة تقطع هاماتها الهيفاء تلك الهالة المهيبة...

 كان هذا المشهد يتكرّر في بزوغ كلّ يوم جديد عند ذهابها إلى العمل ، وكانت ترشف قهوتها ببطء على مزيج أصواتٍ شتى ،هدير ومزامير وأنين رياح تحاول الولوج من نوافذ السّيارة حاملة معها رائحة انبعاثات الكربون والدّخان والغبار فتثقل الرئتين بهواء ملوث، ولربما يعطيها كافيين القهوة الطاقة للنهوض و الاستمرار إلا أن القهوة فقدت نكهتها مع ازدحام المدينة وأصواتها المُنفّرة وتلك الرائحة المقيتة ...

لا تريد أن تفقد شغفها بقهوتها ولا بروتين حياتها ولا بأهداف سعت لتحقيقها وبالتأكيد لا تريد فقدان الشغف بالرغبة بالحياة ، ذلك الشغف لطالما أعطاها القوة والقدرة على الاستمرار ....

"لا بدّ من حلّ " همست لعزيمتها ...

كان الحلّ - رغم ضيق الوقت -  تخصيص وقت قبيل الغروب وعند الانتهاء من كلّ مهام العمل والمنزل للذهاب للتريّض في الحديقة القريبة ، وإطعام القطط فيها، والتعرض لأشعة الشمس ورؤية ألوان أمنا الطبيعة التي حاكتها بمغزلها لوحة فنية تبهر العيون ، إذ إنّ هذه الأفعال تحسَن المزاج وتُشعر بالراحة وترفع من مستوى هرمونات السعادة ...

لفت نظرهم شاب نحيل بشعر مُجعّد وطويل يأتي كل يوم ويطعم ثلاثة قطط صغيرة يبدو أنها فقدت أمها ،كان يجلب الحليب والطعام لها و يمسح وجهها وجسمها بمناديل وماء ، ويداعبها ويبقى بجوارها زمنا ثم يرفع البقايا والنفايات ويترك لها الماء النظيف في علبة و يرحل ...

في كلّ يوم في نفس الموعد يأتي وتأتي معه قطط جديدة ، يبدو أنه وجد شغفه ...

 أطلقتْ على الشاب اسم  "جامع القطط " وأعطتْ اسما لكل قط ّفي الحديقة : الرّمادي ، الأشقر ، الرضيعة المرقطة، الجد، الفضية ، الغليظ ،المتنمر ....

كان ذلك حقا كفيلاً بإدخال السعادة والشغف من جديد في روتين حياتهم ...

مع مرور الأيام توقف الشاب جامع القطط  عن المجيء ، ثم اختفى الأشقر الجديد ، تلاه الرضيعة المرقطة ، و استمرت سلسلة الاختفاءات، فشعروا بالحيرة وتمنوا أن يكون جامع القطط قد أخذهم معه وأنهم بخير لم تدهسهم سيارة أو يؤذيهم أحد ...

خلتِ الحديقة من القطط الصغيرة وبقيت الكبيرة القادرة على عراك الحياة ، إلا أن إناثها كانت تستعد لولادة حيوات جديدة لا أدري إن كانت قادرة على البقاء أيضا ....

لا شيء في الحياة يبقى ساكنا على حاله ،ذرات الكون خُلقت في حالة حركة ،وكل شيء يهتزّ ويتغيّر ويتبدّل وتستمرّ الحياة بكلّ ما فيها ،جِدْ شغفك حتّى في أبسط الأشياء لتعيش بحبّ ، فالموت دائما لا يُمهل ،هو سريع كالعاصفة ساكن كبؤرة الإعصار ...

 

*****


بقلم : نادية محمود العلي