السبت، 19 أغسطس 2023

سادرة شاردة

 سادرة-شاردة-خوف-ضياع-نفس-ألم-حل-ماضي-مستقبل-حاضر-بنت-صغيرة-غصن-أغصان-جرف-زمن-

سادرةٌ شاردة


تهتزّ النظراتُ السّادرةُ الشاردة، تبدو بلا هدف وتتشتّتُ في الفراغ ....

فهاهنا بلاد جديدة، يبدو فيها الفراغ شاسعًا، وذبذبات مريخيّة يتقاذفها الأثير تعطي شعورا بالغرابة ...

 تغيّراتٌ مناخية تجتاحُ كُرتنا السّابحة وهي تدور وتدور منذ الأزل – حسنا لا شيء يبقى على حاله - ثم وباء فتّاك عالمي قيل إنّه مؤامرة وقيل إنه سلاح بيولوجي وقيل إنّ الصين أكلتِ الخفافيش وانتشر فيروس كورونا في الأثير...

حظر تجوال ...كمامات وأقنعة... معقمات وقفازات...شائعات وحقائق...

عجزٌ عن اختراع لقاح مضاد أو دواء ...

لم يعد يبدو الزمن ألفية ثانية ... بدا سحيقا ... قديما ...

 

ما زالت النظرات سادرة شاردة فالحديث عن المستقبل مخيف ...

حروبٌ تجتاح المنطقة، تَصّدعاتٌ سياسية، تكالبٌ دوليّ، أمراضٌ وفقرٌ ثمّ زلازل قلبت مدنًا رأسا على عقب وغيّرت جغرافيا مناطق وابتعلت أناسا في جوفها دون رحمة ....

البعض قال من علامات يوم القيامة، والبعض قال عقاب ربّاني أو ابتلاء، والبعض قال مؤامرة الدّول الكبرى للتخلّص من العامة والإبقاء على السّادة...

بدا وكأنها تجلس على حافة جرف من الزمن، بينما تعبث الريح بخصلات شعرها، وتتدلّى أقدامها إلى هاوية مهيبة قعرها وادٍ سحيق قاحل، وحين تلتفت وراءها يتراءى لها الجبال كأنها عمالقة ذات عضلات مفتولة تتصافح مع غمام السماء وتتصالح في ضباب كثيف مهيب...

 

الحديث عن الماضي مخيف ...

العيش في الحاضر مُفزع ...

التخطيط للمستقبل بلا جدوى ...

وأين نحن !!! أين أنا !!!

تتفكّر وما زالت النظرات سادرة شاردة ...

تتفكّر: كلّ شيء يبدو هادئا إلا أنها تبدوعالقة في بؤرة إعصار، فالجوّ عاصف حولها وهي في مكانها ساكنة جاحظة تراقب بخوف ...

عندما يعود الماضي من جديد لا يكون كما هو، ويبدو ذكريات كانت ذات يوم جميلة أو قبيحة، مفرحة أو مؤلمة، و تتساءل: يا إلهي كم تَغيرنا!!

الماضي عتيق سقيم يموت، لكنه يدغدغ العواطف التي اعتقدنا أنها ماتت...

لم تكن تخاف الموت، لكنها الآن تتفكّر: إنّ الموت مخيف ومظلم وغامض ...

قالوا عنه الكثير وناقشه رجال الدين والفلاسفة والعامّة ...

طفق "جلجامش" يبحث عن الخلود خوفا من الموت ...

وأساطير سُطرت عن الخلود؛ لكن بلا جدوى! لا شيء خالد ...

ما زالت تذكر عندما لمحت وجه تلك المرأة من بين الآلات صدفة، كانت أمها أو تشبه أمها، وعادت تنظر باتجاه المرأة لتتأكد ويا هول ما ترى!

كادت لتقسم أن هذه المرأة الحيّة هي أمها المتوفية، وسالت الدموع فجأة بحُرقةٍ بحُرقة؛ لأنّ أمها في قبضة الموت منذ سنوات! أيّ صدفةٍ هذي المرأة التي كانت تراها يوميّا ولم تُذَّكِرها قطّ بأمها، و الآن فجأة كانت كأنها نسخة بردائها الأحمر وربطة شعرها السّوداء وتقلّصات ملامح وجهها وهي تُحرّك الآلة ...

أغمضتِ العينين السادرتين الشاردتين، واستسلمتْ لفكرة الموت...

جسد يُدفن في التراب وروح تهيم إلى أين!؟

انتفضتْ وحاولتِ الهروب إلى المستقبل، فالحاضر يبدو أيضا سقيمًا ...

تتفكّر: جرفُ هاويةٍ وأيُّ حركةٍ قدْ أَسقطْ ...

إنها الآن تبحث عن غصن تتعلّق به وتخاف أن تخذلها يداها العاريتان ...

ذلك الغصن أخبرها بحيلة صغيرة وهي أن تغمض عينيها وحينها لن ترى سوى الظلام والعتمة وسيكون كلّ شي بخير، سيختفي الغضب والضياع، وسيكون كلّ شيء بخير ...

غصن آخر تعلّقتْ به حتى لا تسقط وأخبرها أنّ التعلّق المادي شيء لا طائل منه: اتركي يديك وستبقين معلقة ولن تتأذي ...

وامتدَّ غصن ثالث واقترح عليها العناق معه حتى لا تسقط إلا أنه كان مليئا بالشوك والإبر، سيدميها وتقطر دماؤها وتموت بين ذراعيه ...

امتدت أغصان كثيرة كلها كانت قصيرة وضعيفة، وخافت أن تخور قواها وتخذلها ذراعاها المُتعبتَان ....

نظرت للأسفل ...المستقبل يبدو هاوية سحيقة ...

أين نحن !!!أين أنا!!!

نظرت للأعلى ورأته ... شبح الماضي ... ابتسم ابتسامة جميلة جدا أسعدتها لوهلة ...مدَّ يده وأشار لها أن تتمسَّك به ويشدها ...

يده كانت زَلِقة، لا ريب فإنه شبح ...

 

 

توقف الزمن عند هذه الصورة :

شبح ماض أعلى الجرف...

أغصان متكسرة ضعيفة تتمسك فيها حتى لا تسقط...

هاوية سحيقة ضبابية مظلمة كقدر محتوم ...

ماذا تفعل ؟!

سمعت همسا يناديها: هيييه!  أنتِ!

تلفَّتتْ تبحث عن مصدر الصّوت وهي مُعلّقة لتجد بنتًا صغيرة ضئيلة تجلس في كهف صغير بين طيّات صخور الجرف ...

همست ثانية: تعالي!

 ومدَّتْ يدها الصغيرة ...

مُترددة أعطتها يدها، وشدتها الصغيرة بقوّة وخفّة وسحبتها بجانبها ...

قالت الصّغيرة وهي تتنهد: إنّ تلك الأغصان ستتكسر، وهي غير جادة، هل تعتقدين أنها تهتم!

حدَّقتْ في عينيها القاتمتين ، لم تعتقد يوما أنها ستقابل مثل هاتين العينين! عاتمتان لامعتان بالحزن والهدوء، كأنّها أمواج بحرٍ في ليلة دعجاء ترتطم بصخور الشاطئ وتنسحب مصدرة ذلك الصوت المهيب ومُحْدِثةً زبدا مضيئا.

حدَّقتْ طويلا سادرة شاردة ثم قالت للصغيرة: أتهتمين ؟!

أطرقت تلك العينان العاتمتان وهمست: لا أعرف! أتعرفين؟!

لم تتوقع ذلك الرّد وفكّرتْ ثمّ همستْ للصغيرة:

 -لا نعرف شيئا حقا، لم يستطع أحد أن يعرف شيئا حتى لو تيَّقن! لم يستطع باحثٌ ولا عالم حلّ معادلة الإله -تنهدت تنهيدة طويلة – أعتقد أننا سنبقى دائما حائرين سادرين شاردين ...

- حقا!

همستِ الصغيرة وهي تُمعِنُ النظر في عينيها الخضراوين ثم تابعت:

- هل تعلمين ماذا في القاع؟

- المستقبل؟!

-أخائفة أنت؟!

-خائفةٌ حدَّ الرُّعب!

-هل كنتِ تعلمين أنكِ ستصلين هذا الحدَّ من حياتك وعمرك؟!هل علمتِ يوما ما الغد؟!

-لا!

-إذن؟!

-إذن ماذا؟!

-اقفزي!

ودون انتظار الرّد هذه المرة، دفعتِ الصغيرةُ الفتاةَ دفعةً قويةً سريعةً خفيفةً، جعلتها تسقط في الهاوية سقوطا بدا طويلا غير مؤلم وغير متوقع ...

أغمضت العينين، ودعت الإله أن يعطيها الحلّ لمعادلته ...

في تلك اللحظة استفاقت في القاع وما زالت العينان سادرتين شاردتين ...

*****

 

 بقلم نادية محمود العلي 

 

 

 

 

 


 

 

الأحد، 13 أغسطس 2023

وانقرض ساعي البريد

 ساعي-بريد-انقرض-مستحاثة-رسائل-حنين-دار-انترنت-تواصل-اجتماعي-وطن-

وانقرض ساعي البريد ...

 


ساعي البريد يطرق بابنا :

هذه رسالة من أختي المتزوجة في مدينة بعيدة ، تبثُّنا شوقها وأخبارها ..

وتلك أخرى من أخي المسافر خارج الوطن، يبثُّنا حنينَ الغربة والألم  ..

هنا ظرف جميل عليه طوابع ، من صديقة لي في المراسلة ، ترسم لي عادات وتقاليد بلادها بريشة الكَلِم ..

بابتسامة  طفولية ، سأجمع الطوابع في ألبوم جميل وأنسِّقها ، سأحتفظ بالرسالة الغالية بين أوراقي الغُرَّة ...

بتُّ زوجةً وأما صغيرة في وطن آخر ، أكتب رسالة مُحمَّلةً بالشوقِ لأمّي وأبي وأخوتي وربيع بلادي  ...

ساعي البريد يطرقُ باب الدار العتيقة : يسلم رسالتي ...

يقرأها الجميع بشغف ...

وهاهنا بين يدي َّرسائل جميلة من أهلي و صديقاتي ،  أقرأها و أشتم رائحة الزيتون والتين بين ثناياها ، وأكاد أرى سنابل القمح وابتسامات الوجوه بين سطورها ....

بابتسامة حنين شابة أرتبها  بحرصٍ في صندوق رسائلي القديمة وبين طيات وثنايا  الورقات الصفراء ..

 

الآن في عصر الإنترنت وزحمة مواقع التواصل الالكتروني :

رسالة بريد إلكتروني ، وساعي البريد  مجرد تنبيهٍ أحمر ...

كلمات شوق وصورةٍ تصلني على الواتساب  في جوالي ....

أصوات الأهل  يكلمونني في السكايب ...

وبابتسامة ناضجة متعبة  ، أحتفظ بالصور في ذاكرة الكترونية ....

إنها زحمةٌ غريبة تملأ جهازي الصغير ...

وأردت إرسال تحية تقدير لمخترعه المبدع ...

 

قلبي المتعب يتساءل عن رائحة الورق الأصفر ، حتى باتت عروقه ريشة  ترسم على جدران عقلي الباطن  بابَ الدار العتيقة ، التي باعها الصغار و خلف درفتيه غرباءٌ الآن ...

وأين ساعي البريد حاملا شنطته الغريبة ! يمسح بمنديل قماشي جبينه ،  وبابتسامة صابرة يسلم بيده السمراء الأظرفَ كأرغفة صغيرة هي غذاء للروح ...

وأردت أن أرسل له تحية ، ولتلك الجدران وذلك الباب ...

ومهلا!!!

 انقرض ساعي البريد و انقرضت معه تلك الدّار، وبصماتُ الغرباء  أخفت بصماتي وأخوتي الصغار ،لتصبح مجرد مستحاثات في تلك الزوايا  خلف درفتي  ذلك الباب !!

هل تكسّرتْ أجنحة الحنين، حتى باتت سجينة دوامة الزمن !

ولمَ يا أمّي أصبحنا غرباء في زمن التواصل الاجتماعي وسرعة وصول الكلمة والاكتساح المادي !

*****

 

بقلم : نادية محمود العلي