السبت، 21 نوفمبر 2015

محض ظلال ماض" قصة قصيرة"

 3273298359_e9116a3f30
محض ظلال ماض



،،،،،،هديل اليمام 
 لطالما فتح هديل اليمام على روحي بوابة لعالم سحري مملوء بكنوز الذكريات, التي ربما أكون حتى أنا اجهل بوجودها.

حقا عجبت ,, لماذا , بل و كيف يحدث هذا ؟

في كل مرة انصت لهذا الطائر الحنون  تنهمر الذكريات الدفينة  من تجاويف حنايا عقلي لتطفو على سطح روحي و كأنها تحاك أمام ناظري من جديد

كيف لهذا الكائن الضعيف الصغير الحجم أن يجيد بتلك الحرفية  فك أُحْجِيّات  و طلاسم نفسي التي عجزت انا نفسي عن حلها !!؟
يبدو أنه حقا بالأمر سر ,, فهكذا أخبرتني ذات يوم جدتي

كنت آنذاك طفلة صغيرة اناهز السادسة , و كلما بت ليلتي بحضن الجدة كانت تكافؤني  بأن تقص علي إحدى قصصها المثيرة التي ظننت لعهد قريب انها حقيقة – أو ربما هكذا وددت لو أنها –

الليلة بت في سرير الجدة و لكن يبدو أنه دافئ و مريح لدرجة أني غفوت قبل أن انال مكافأتي أو ربما من فرط التعب الذي اصابني من جراء اللعب و الركض خلف دجاجاتها المسكينات !!

لكن كما تقول أمي : من ينام مبكرا يولد النهار الجديد على يديه

و هذا ما حدث,, قبل انسلاخ ذيول الظلام الناشبة في افق الضياء , كنت أشارك الجدة عبق ابخرة قهوتها , و كعادتها لم تضن علي بمسحة على اصبعها  من وجه فنجانها فهي تعلم اني وقعت في غرام تلك السمراء، لكنها أخبرتني أنه مازال امامي بعضا من الوقت كي أكون جديرة بإرتشافها و حتى ذاك الحين علي أن اكتفي بتلك المسحة من وجه فنجانها التي تجود هي علي بها ,,,

 "- ليتها مازالت تسكن عالمنا حتى اخبرها أنه إلى اليوم لا أنال رشفتي الاولى قبل تلك المسحة من وجه الفنجان !"

و بينما يتصاعد صوت اذان الفجر القادم من مآذن الحي, ليعلن للكون ميلاد يوم جديد ,, كان اليمام يهدل بشرفة جدتي ,, أما أنا فأمارس حقي في المطالبة بمكافأة الليلة السابقة التي حرمني النوم منها

و بعد إلحاح شديد مني قالت الجدة : حسنا حسنا , لا بأس , فقط اصبري يا صغيرة ريثما أصلي الفجر و بعدها احكي لك حكاية" اليمام النائح"

 ببطئ شديد كانت تمر بي الدقائق أثناء صلاة الجدة حتى أني تراجعت أكثر من مرة عن مقاطعتها

و قد كان كل تفكيري مأخوذا بالحكاية الجديدة

 ترى ما معنى نائح !؟

و كيف و لما ينوح اليمام !؟

تلك كانت الاسئلة التي تدور في ذهني حينها

-آه و أخير انتهت الجدة من صلاتها و ألقت السلام – هيا هيا يا جدتي احكي لي احكي –

-حسنا يا فتاتي حالا ساحكي لك فقط أنصتي إلي جيدا فتلك الحكاية حدثت بالفعل



,,, كان يا ما كان  و عندما كنت صغيرة في مثل عمرك الان

كانت هناك جرة ماء , لا أحد يدري متى أو كيف , لكنها وُجدت بباحة القرية منذ قديم الزمان , و كان يردها من كل الكائنات اشكالا و الوانا   ,, فما بيوم نضبت ولا عليهم بخلت

مازلت اذكر انها في ما مضى كانت معين الحي ,, نعم اذكر ذلك جيدا  ,, فكل نساء الحي كن تقضين منها حوائجهن و تروين زهورهن

و كانت تتجمع حولها الطيور المهاجرة، بيد أنها مآوى تنسج اليمامات البرية عندها في أمان أعشاشها

حتى اتى ذاك المساء المشؤوم الذي شُرخت فيه الجرة فما عاد يسكنها ماء ولايُرتجى منها رواء , فحزن عليها من حزن حتى بكاها غيم السماء

بل بلغت أن صبت كل الكائنات غضبها على طير اليمام، فهو من بنى عشه بالقرب من الجرة، و هو من عليه أن يعرف ,, من الذي تجرأ و شرخ تلك الجرة !!؟

أما اليمام المسكين المغلوب على امره فمن يومها و هو ينوح الجرة فتُبعث على نواحه الذكريات الدفينة بصدور كل من يصل إلى سمعه ترددات هديله الحزين

على امل أن يصل في يوم إلى مسامع ذاك المجرم فيتجرع عذابات فعلته في كل حين !!



كانت تلك قصة من قصص جدتي اللاتي مازلت اتساءل في قرارة نفسي عن كونهن حقيقة أم محض خيال


فهديل اليمام مازال على العهد باق , يوم يسوق لي البهجة حتى أنفجر من الضحك,  و اخر يُغرقني في غصاتي حد انهمار المآقي !!

اليوم و كعادتي أدرت مذياعي- الذي ما أغناني عنه سائر وسائل الأعلام على كثرتها في عصرنا-

محض صدفة , كانت جارة القمر تصدح برائعتها –و أدندن أنا معها - "طل و سألني إذا نيسان دق الباب "  و بينما احتسي قهوتي الصباحية في مطبخي ,, لفت إنتباهي صوت صيصان اليمام بالقرب من نافذتي , حاولت و بمنتهى الهدوء أن اختلس بعض النظرات أو استرق السمع حتى لا تفزع جارتي- أم الصيصان –

تلك الفرخات الصغار هي فقس اليوم –فأنا متابعة جيدة لأخبار جارتي-

نعم,, ,,, فاليوم فلكيا يعتبر بداية موسم الربيع , و مع الربيع يولد كل بديع , طقس خلاب يجذب بجماله الألباب, سماء صافية زرقاء ,أما عن الأخضر فعم البسيطة في وقار و بهاء , أزهار بكافة الألوان تتفتح براعمها في كل بستان , تنشر عبيرها , فيحوم وينهل من رحيقها النحل و الفراشات , طيور مهاجرة تتنفس الصعداء , حطت و أخيرا رحالها و بنت اعشاشها  , شمس تنير الكون بأكمله ليكتسي بحلة البهجة بعد أن طالت عتمة الشتاء.

نعم ,,,,, فلطالما عشقت الربيع و وددت لو أنه الموسم الوحيد بالكون و الذي تكف عنده الأرض عن الدوران حول الشمس !!

حري بي عشق الربيع ,, فهو ليس موسم الجمال فحسب بل هو أيضا موسم الذكريات الجميلة على مدى عمري , فلقد شهقت أول انفاسي في أخر يوم ذات ربيع , و شرع قلبي مصراعيه للحب، فارتبط قدري بقدره ذات ربيع, حتى أني أنجبت جورياتي الأربع أيضا بالربيع ,,و كم أتمنى لو يواري ثرى الربيع مثواي يوم تلحق روحي ببارئها , و لا سيما شجرة توت مسنة تواري أوراقها العورات يوم البعث .

في ذاكرتي لا توت بلا ربيع و لا ربيع بلا توت , فعندما يحين موسم قطاف ثمار التوت أكون أنا و بالمصادفة قد بلغت أقصى درجات اشتهائي له , فتلك الحبة الصغيرة ذات الفصوص الفاحمة السواد و كأنها سبج بعناية متراص البنيان , حقا لها العجب , كلما دغدغتها تحت أضراسي أفرزت بسخاء عصارتها الشهية التي لا مثيل لها فتنساب بجوفي و تلطف من توهج حر الربيع .

 كما أنه مع مذاق كل حبة توت تطال حلقي يجتاح روحي وابلا من الذكريات القديمة التي يعود أغلبها الى ما قبل ثلاثين عاما من الأن .

تحملني الذكرى لبدايات الربيع , لتلك الطفلة التي لم يحرمها فقر والديها من متعة تدليلهما لها .

 اكاد اقسم أني و على الرغم من مرور تلك السنوات التي غزى التغيير فيها خلجات كل حي و جماد على سطح الكوكب إلا أن رائحة صباحات الربيع  آنذاك مازالت عالقة بأنفي

بل و مازال يتردد بأذني صوت ضحكات امي و هي تلبسني الزي المدرسي وسط الحاحي عليها بارتداء فستان مزركش يتناسب مع بهجة الربيع, و عبثا اتعلل بأن اليوم ليس يوم دراسي و إنما اختبار و لا بأس بزي مخالف في يوم كهذا

مازلت تنتابني نفس مشاعر الدهشة كلما تذكرت تلك الصبية ذات الجلباب و الوشاح السوداوان , التي ما انفكت  تسير أمامنا بكل توازن حاملة فوق رأسها مشنة لا تمسها يدها على طول المسير بينما يظهر على جانبيها حبات التوت

مازالت ترتسم البسمة على ثغري كلما تذكرت  الفرحة العارمة التي كان يرقص لها قلبي الصغير  عندما يستقر بتلك الصبية المسير و تجلس بزاويتها المعتادة أمام مدرستي ثم تفترش مشنتها المملوءة بحبات التوت الهشة و تزيح عنه بخفة الوريقات الخضراء حتى لا يتأذى فيفقد رونقه أو تسيل عصارته الغنية الشهية سدى

نعم,, و كأنه حدث  و مر بي اليوم و ليس ابعد,, فمازالت عالقة بذهني نشوة الفوز بباقة الجوريات التي كانت تمنحها بائعة التوت مع أخر قرطاس توت تحويه مشنتها ,, فانتهاء بضاعتها  لم يكن  يستغرق سوى بضع دقائق , لكن حتى الدقائق هناك من لا يمتلك إهدارها فيتنازل في المقابل عن منحة بائعة التوت , أما أنا فقد أنعم الله علي بأب على اتم الاستعداد ليهدر عمره بالكامل في مقابل بسمة تجلو فوق ثغري , لهذا كانت باقة الجوريات على الاغلب من نصيبي مصحوبة بكلمتين دعابة بالإضافة الى ورقتين توت اختزنهما بحقيبتي المدرسية لحين العودة للمنزل لاقدمهما كوجبة رئيسية لدودة القز التي اسكنتها صندوق خشبي اعده ابي لها خصيصا علها تنتج حريرا لكنها و بكل اسف ما انتجت الحرير قط

,,, كان هذا أبي

أما مع أمي فقد كان الأمر مختلفا ,, الأيام التي تصحبني أمي فيها إلى المدرسة , نجتاز الطريق و هي ممسكة بيدي و جسدها يسبق جسدي بمسافة ذراعينا و بطبيعة الحال أثناء ذلك لا اجرؤ على مجرد الالتفات إلى بائعة التوت فأمي تكتفي بمقدار الدقائق المهدرة اثناء تجهيزي و احضاري إلى المدرسة و هي حقا لا تمتلك المزيد لتهدره عند بائعة التوت و إلا تعرضت للتوبيخ  و المجازة من رب عملها , وقد كان لهذا غصة تعتصر روحي و يرتجف معها قلبي ,,, أيضا ما زلت اذكرها !!

ككل جميل ,, تمضي أيام الربيع مسرعة في عجالة من امرها و بمضيها ينقضي معها موسما ما زارنا إلا و بجعبته كل الخير

و على الرغم من مرور ما يقارب ثلاثين ربيعا على ذكرى بائعة التوت إلا أنها من الذكريات الخالدة بالوجدان و التي لا يمحوها مرور الزمان فكلما عاودتني ذكراها , ابتسمت و استغرقت في التفكير ,,و أتساءل في قرارة نفسي : عن ما الذي كانت تبيعه بائعة التوت بعد انقضاء موسم الربيع بتوته !!؟

وترى على أي ضفة رست مركب الحياة بتلك الصبية!!؟

كانت ذكريات بائعة التوت هي أخر ما جمعني بموسم الربيع في وطني و مسقط رأسي إذ حملتني الاقدار بعدها طويلا على السباحة في بحر الغربة و إن سمحت لي شاكرة بالتقاط نسمات هواء الوطن بين الفينة و الأخرى

لطالما كانت الغربة قيدا و كانت روحي في قصرها أسيرة .

و كان قدوم موسم الربيع و انتشار حبيبات اللقاح بالأجواء بمثابة جرس الطبيعة الذي يدق فيعلن دنو أجل استنشاق نسمات هواء الوطن , و كنت أنا كأسير يهش و تنفرج اساريره بمجرد سماعه لصليل السلاسل و هي تنفك عن يديه
بيد أن طرقات ساعي البريد لباب بيتنا آنذاك كان من شأنها أن تهدئ من لوعة الاشواق و حرقة الحنين إلى الاحبة في الوطن

تهدل اليمامات بنافذتي من جديد فتعلو البسمة ملامحي ,,

 نعم نعم ,, فلقد تذكرت ذلك الرجل المجتهد ذو الوجه الطيب البشوش الذي ما كان يكف عن السير بطرقات الحي , فما خلا يوم بلا رؤيتي لوجهه الذي ما انفك يتقطر عرقا و هو مرتديا سترته العاجية اللون مبطنا ياقتها بمنديله الأبيض بخطوطه الصفراء التي تتقاطع مع اختها الخضراء في تناسق مبهج , محتميا بتلك الكاب الرمادية من قيظ شمس الصيف و امطار الشتاء , متدلية من فوق كتفه الحقيبة التيل الصفراء ذات الجيوب المتعددة .

على الرغم من كونه عاملا مشتركا بين احداث يومي  آنذاك , إلا أن الزمن قد نجح بمهارة في محو تفاصيل ملامح وجهه من ذاكرتي

,,,- ويحي و النسيان -,,, كيف يحدث هذا ..!!؟

فقد كنت يوميا  أراه,, إما يجوب الطرقات و أنا في طريق عودتي من مدرستي , أو أنه يطرق باب بيتنا بعد الظهيرة لنستلم نصيبنا من حمولة حقيبته التي تفاقم ثقلها على كتفه حتى ناء به الحمل اثناء المسير.

أتذكر جيدا كيف كنا نتدافع و نتحلق حول ابي اثناء لحظات استلام الاظرف من ساعي البريد

, أتذكر أنه كان علينا أن نكتم انفاسنا و صيحاتنا التي نطلقها مرحا فيضج بها البيت بمجرد رحيل ضيفنا السريع و اغلاق الباب

, أتذكر ذاك الشعور بالنشوة و الفخر عند رؤية حروف اسمي الثلاثي مخطوطة على الظرف و كأني استلم جائزة نوبل و ليس محض خطاب من صديقة مراسلة تعرفت عليها عبر مجلات الأطفال ..!!!

"شكرا ساعي البريد" كانت تلك عبارة تربينا على أن ندونها على اظرف المراسلات كعرفان منا بجميل ذاك الرجل الذي قضى اغلب ساعات عمره يجول الشوارع و الطرقات إما على دراجة أو مشيا على قدميه ليبلغ هذا السلام و يطمئن فؤاد تلك.

ذكريات طفولة بريئة , و ساعي بريد اندثر كما اندثر قبله الحمام الزاجل ليحل مقامهما فضاء شاسع ضيق يعج بالرسائل و الردود المعدومة الشوق .
 لا بأس ,, فبغض النظر عن طبيعة الوسائل يكفي توفرها لضمان التواصل

على الرغم من كون الغربة قيدا يطوق الاعناق و يخنق الانفاس لكن بالنسبة لي أنا كان الامر مختلفا , فقد اعتدت قيدي بالقدر الذي تماهت فيه بروحي حدود الغربة مع حدود الوطن فعجزت عن تحديد هل غربتي وطني أم وطني هو غربتي !!؟

يبدو لي أن جارتي تطعم صغارها , إذ قد سكنت صيصان اليمام و تعالى الهديل في شجن و حنان لا مثيل له , و مجددا حملني اليمام على جناحيه

و كأنه آلة عجيبة للانتقال عبر الزمن

فأخذني برفق إلى هناك ,, الى ربوع بلادي و قضاء الاجازات الصيفية  بشاطئ البحر,, حيث استكانت حبات الرمال الناعمة الذهبية في ود و وئام بين أحضان الموج , تعبث بها الموجة تلو الآخرى, فلا تلبث أن يستقر بها حال بين  مَدّ و انحسار

فهذا هو حال المتوسط على الاغلب , يموج ثائرا , غاضبا , عدا أياما قليلة فيها يستجمع قوته ليموج من جديد – يبدو أنه كان للإغريق عذرهم في اتخاذ بوسيدون الها للبحر –

كرنفال او ربما انه مهرجان , تقيمه عناصر الطبيعة بالتعاون مع البشر بلا تنسيق متعمد

في كل صبيحة صيف و في أحضان أمواج المتوسط الهادرة , تصطف المظلات ذات الألوان المتعددة ممتدة من افق التقاء الأرض بالسماء يمينا و حتى اقصى اليسار مكونة قوس قزح بمحاذاة البحر, و كأنها ازهارا زاهية سامقة الاعناق ينبتها الشاطئ في مثل هذا الموسم من كل عام, ليحتمي بظلالها من يكتفي من البحر بالمشاهدة و التأمل , و يستمتع بجمال منظرها من يخوض و يلتحم جسده بالبحر 

وكما أن لكل مجتهد في الحياة نصيب- فبطبيعة الحال -كلما كنت من المبكرين بالاستيقاظ , كلما اتخذت مقعدا اقرب من مضيف المهرجان _ السيد بحر _ و لآني و منذ الصغر شغوفة بهذا السيد الغامض الوقور مشاهدة و التحاما , دأبت أن أكون من أوائل رواد المهرجان حتى اني اذكر جيدا كيف كنت ابيت ليلتي مرتدية لباس البحر الأزرق ذو المربعات البيضاء تحت منامتي , و انهض مسرعة مع شروق الشمس - حتى قبل ان تصافح زخات الماء ملامح وجهي -اركض يمينا و يسارا طارقة أبواب الغرف و بأعلى صوت انادي : هيااااا..... سيفوتنا البحر

بانتهاء طقوس الصباح و في عجالة تكون امي قد اعدت حقيبة الشطائر و لوازم قضاء يوم في ضيافة المتوسط

لتبدأ خطواتي السريعة المتلاحقة نحو سيدي و غرامي ,فيكاد باطن قدماي لا يلامس الأرض , حقيقة لا ادري هل هو من فرط حماسي أم من لهيب حرارة رمال الشاطئ ..!!؟

ليكن .... لا بآس فلقد اقتربت من البحر أخيرا , و بدأ الزبد البارد يتخلل اطراف أصابع قدمي الساخنة مداعبا إياها و ملطفا, و رويدا رويدا استسلمت لعبث الأمواج  تماما, حتى أصبحت كجنين يسكن رحم الموجة فلا تلفظه قبل ان تسلمه للموجة التالية , و كأن روحي خلقت سمكة في عالم اخر و زمن اخر ,,, اتلاشى كلية في الأعماق, و تحت جزيئات الماء فلا يعيدني الى السطح الا فزع امي عندما لا تراني ,او عندما يذكرني جسدي اني لا املك خياشيم ..!!  

بينما يزرع ابي مظلتنا في الصفوف الأولى لتبدأ مراسم المهرجان الواحدة تلو الأخرى

 بداية من مرور قارب خشبي على عجلات, يسحبه في غنج و دلال بائع البوظة بنكهة المانجو , فيتحلق في شغف حوله صغار المهرجان رافعين أيديهم الصغيرة طلبا للبوظة -بالطبع أكون أنا حينها على رأس الحدث -.

 مرور ببائع البالونات الزاهية الألوان و اطواق البحر التي يكاد يختفي رأسه وسطها, فلقد ظننت حتى عهد قريب انه جسد بلا رأس يمشي على قدمين – بالطبع لا يجتاز مظلتنا قبل أن اختار سطل جواريفي و طوقي -

و حتى مرور مشنة السمك و ام الخلول و الجندوفلي التي يلتقطها بائعين كل من طرفه و يفوح منها عبير عالم البحار المنعش

وصولا الى ذاك الرجل ذو الارجل الطويلة و البشرة البرونزية - التي اهداها له سيد المهرجان بصحبة السيدة شمس, اعزازا له و تقديرا على عدم التغيب يوما-  تتدلى من عنقه آلة التصوير التي يلتقط لنا بها بعض صور علها تخلد طعم المتعة بحلقنا كلما مر بناظرنا ما التقط لنا حين ذاك لكن في حقيقة الامر انها تذكرنا بكم هي سريعة و حادة عجلات الزمن ..!

 يمر اليوم كما العمر ببناء قلاع و قصور من رمال و خوض بحر و مجابهة أمواج
فتارة يجرفنا الحنين و الذكرى لزمن مضى , و أخرى تغيبنا مخاوفنا عن متعة يومنا          

لكني ايقنت انه بمرور خطوات الزمن قد تخفت فينا الحواس كما تخفت الذكرى, فكم كان آنذاك للحظات طعم و روائح, تدريجيا تلاشى و استحال محض ظلال ماض و خيالات شاحبة.

**********************
نسرين مصطفى


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق