السبت، 30 سبتمبر 2023

على شفير الوقت

 يوم-جديد-وقت-شفير-ابنتي-أم-حياة-موت-سرطان-شمس-قهوة-نوم-شفير

على شفير الوقت

ينفرج الجفنان ببطء شديد بينما تتعالى رنّات منبه الجوال بجانب أذنها ضاربة على عصبونات دماغها بشدة؛ مما يستغرقها طويلا لتكتشف أين هي ...

تفتح عيونها ببطء شديد لتُسكِتَ الرنين المتعالي ويدها تبحث بتثاقل عن شاشة جوالها، وعندما يتوقف الصوت يبدأ نهر من الأسئلة بمهاجمة تلك العصبونات المسكينة في دماغها:

أين أنا؟

يوم جديد؟

ما هو اليوم؟

أنهض؟

ماذا عليّ أن أفعل؟

أطفالي أين هم؟

بمجرد أن يستوعب الدماغ أنه يوم جديد يقوم بالتركيز على هذه النقطة ....

يوم جديد؟

فيما مضى عندما كان يرنّ المنبه كانت تسكته من أول رنّة، وتنهض بسرعة وكأنها رجل آليّ مبرمجٌ ماذا يفعل، يدخل الحمام ثم يوقظ الصغار وإلى المطبخ ليجهز الفطور ثم وجبة المدرسة ويبدأ يوما جديدا في كل يوم جديد...

وحاليا ومنذ شهور قليلة عندما يبدأ نور يوم جديد بشقّ طريق ضيقة بين جفونها منبّها دماغها -الذي ولا بدّ قد أُتلفَتِ الكثير من خلاياه الرمادية من هجوم رنين المنبه ضاربا بشدة عليها كل يوم - يستغرقها الأمر وقتا قد يبدو طويلا إلا أن عملية معالجته في الدماغ لا تطول لدقيقة ربما، ويدها على شاشة الجوال وهي تسأل دماغها: 

يوم جديد؟!

أين كانت طوال الليل؟ أين نذهب في نومنا؟ كيف أستطيع أن أبدأ يوم جديدا؟

إنني لم أمت! أنا على قيد الحياة! ...

ألم شديد يعتصر قلبها لوهلة، ثم تنهض محاولة أن تتنبّه برشقِ قطرات باردة على وجهها، توقظ الكبار الذين كانوا صغار وتجهز الفطور ووجبة المدرسة، ولكن مهلا:

-أعطني عناقا طويلا يا حبيبتي الصغيرة، وأنتَ كذلك يا صغيري الغالي ....

تنظر في عينيّ ابنتها وترى في تدرّجات الأخضر فيهما كلّ أنواع الصراع الأزلي مع محاولة بدء يوم جديد في مدرسة الروبوتات، ترى في عيون ابنتها محاولات المواراة   و التعب والسّخط من حياة فرضت وجودها علينا وتظن أنها تكافؤنا بالألم والمعاناة ...

تُقبّلُ عيني ابنتها وتضمّها بين ذراعيها، تمسح شعرها وتنظر في عينيها مجددا لترى نظرة الاطمئنان تطفو على وجه تلك البحيرة الثائرة وشفتاها تهمس:

-أحبك ماما ... هل ستكونين هنا عندما أعود؟ لن تتخيلي كيف أنسى كلّ تعبني عندما أجدك بانتظاري وأنهال عليك بقصصي ويومي المدرسي الكئيب وأنا أتناول طبخ يديك اللذيذ، إنها أجمل لحظات يومي...

تعانقها وتعانق ابنيها وزوجها، تتمنى لهم يوما مدرسيا هادئا ومفيدا وتخبرهم أن قلبها معهم أينما ذهبوا ...

تسرع إلى المطبخ وتُدخل كبسولة القهوة في مكانها في الآلة، تضغط الزر وبثواني تجهز قهوتها. ترشف ذلك السواد الصافي ببطء وبإدمان جرى في عروقها حتى بات الكافيين قوامها، وتتنبه خلاياها الرمادية المتبقية والتي لم يطالها الضرر ثم ترسل إشارات ورسائل إلى كل جزء من جسدها:

 -إنه يوم جديد...

تتثاقل ثانية عن بداية اليوم الجديد وهي تفكر في حديثها مع ابنتها أمس عندما أخبرتها عن وفاة صديقتها بمرض السرطان ...

تلك الطفلة بنت السابعة عشر، كانت تريد الحياة بعد صراعها الطويل مع السرطان، غيّرت اسمها وأقسمت أن تبدأ حياة جديدة حين أخبرها الأطباء بأنها شفيت وأنها تستطيع العودة للمدرسة بعد غياب سنة كاملة ...

رأوها راكضة لتفتح لهما الباب عندما زاروها بعد خروجها من المشفى، ولن تنسى كيف أعطتها تلك الصغيرة الدفع في الحياة، حيث كانت تتوقع رؤية فتاة مريضة مسكينة، وتتفاجأ بها تركض بنفسها وتفتح الباب مبتسمة ابتسامة كبيرة جدا جدا وعيونها تنبض بالحياة وترحب بهما ثم تعانق باقة الورد التي معهما فوق صدرها ...

والآن تلك البرعم استغرقها الأمر أسبوعين فقط، ثم انتكست حالتها يومين فقط ثم فارقت الحياة بعد ألم ومعاناة ...

قالت الابنة: أعطتكِ دفعا بالحياة يا أمي ثم الحياة نفسها أخذتها عنوة.

حزنتْ جدا وهي صامتة تصغي لابنتها...

أكملت الابنة: التشاؤم ليس أسلوبا خاطئا في الحياة يا أمي لأن التفاؤل ليس كلّ الواقع.  الواقع مؤلم ومفزع أحيانا والحياة لا تصفو لأحد، لذلك علينا أن نعيش ونحن متقبلين ذلك...

الأمّ: الحياة فُرضت علينا ولم نختر وجودنا؛ لذلك علينا أن نعيشها وأن نمضي بكلّ قوة فيها ...

مجددا الوقت ينبهها أنه لم يتبق لها الكثير من الوقت لموعد العمل، إلا أنها مجددا تثاقلت وهي تتذكر عيون ابنتها الحبيبة وتفكر:

- تلك العيون التي اختارت أن تخفي خلفها كل المشاعر وكلّ الأفكار التي أثقلت كاهلها الصغير إلا أنها سمحت لي أن أدخل فيها، أن أبحر فيها وأجدّف معها في قارب صغير. أنا أيضا أحبك حبيبتي الصغيرة ولحظات تطلعي إليك وأنت تسكبين كل جعبتك بعد العودة من المدرسة هي أجمل لحظات يومي كذلك ولا تظنين أنك تسكبين هباء، فأنا ألملم كل الحروف فيما تبقى من خلايا دماغي. وإن تساءل الجميع من هي حبيبتي فأنت بلا شك حبيبتي الصغيرة...

تلتقط مفاتيح سيارتها وتنطلق مسرعة على أنغام مسجلها، تمتصّ كالزهرة طاقة ضوء شمسِ يومٍ آخر، طاوية بسرعة المسافة للعمل إلا أنها لا تصل متأخرة أبدا، هي على شفير الوقت دوما...

*****


 نادية محمود العلي 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق