السبت، 2 سبتمبر 2023

ليالٍ مثلجة

 ثلج-ليالي-ضباع-ريح-طفلة-أخ-رجل-ثلج-دم-أم-صبر-رغبة-خوف-تين-شجرة-زيتون-كرم-

ليالٍ مُثْلجة

أوّلُ يوم:

كانت ليلة عاصفة باردة نَفَثَتِ الرّيح فيها كلّ ما في جعبتها من القسوة، وصرّت بأنيابها محاولة كسر الحواجز حتى اعتقدت تلك الطفلة الصغيرة المستلقية في فراشها أنَّ وراء الشبابيك وحشا مفترسا أو أشباحا مخيفة تحاول كسرها والدخول للمنزل ...

أغمضتْ عينيها بخوف وهي تتخيل كلَّ ما في ذاكرتها من مخلوقات مخيفة:

غول، تنين، مستذئبين، مصّاصي دماء، زومبي، أشباح ....

وتساءلت: كيف ستهرب لو اقتحمت تلك المخلوقات غرفتها؟ فقدمها متورمة وتؤلمها بشدة وهي لا تدري ما السبب، ربما قد داست على شيء ما...

غفتْ وهي تصغي بخوف لِطَرَقات الرّيح متخيلةً إيّاها كلَّ ما أبدعته جعبتها الصغيرة.

فتحتْ عينيها ببطء وهي تسمع بلبلة أهلها حولها، وقبل حتى أن تسأل باغتتها أمّها بهزَّةٍ من ذراعها وهي تقول:

-انهضي! الثلج يغطي كلّ شيء في الخارج ويتساقط بغزارة، وأخوكِ يصنع تمثالا كبيرا من الثلج!

ابتسمت وجلست في فراشها مُحدِّثةً نفسها: أخيرا الثلج!

 

نهضتْ وحاولت ارتداء جزمة أو حذاء ثقيل حتى لا تبرد ولكنّ قدمها كانت متورِّمة ولم يناسبها أي حذاء أو حتى جورب، وأمّها منعتها من الخروج حتى لا تتأذى...

تناهى لسمعها أصوات أخوتها مع أبناء الجيران في الخارج يتضاحكون ويصرخون ويقذفون بعضهم بكرات الثلج، وبدا المكان بالخارج يعجّ بالزّحمة والضّجيج بينما بدا المنزل موحشا مظلما كئيبا صامتا...

 

وبعد صبرٍ صارعَ الرغبة ثم تراجعَ منهزما، انتعلت أخيرا حذاء أبيها المنزلي الكبير والمفتوح من الأمام، وبدأت تخطو فيه كقطّة جريحة،

حاولت الاستناد على الجدران وعرجت ببطء حتى لا تنزلق قدماها فوق الممر المُبتل الذي فتحه أهلها في الدّرب إلى الباب الخارجي.

وقفت عند عتبة باب الدّار الخارجية ورفعت نظرها...

كأن شيئا خاطِفًا وجميلا اجتاح قلبها عنوة وفتح صدرها دون ألم، وتغلغل شعورٌ بالسعادة الساكنة في شرايينها إلى تلك الخلايا الرماديّة الصّغيرة في المخّ...

في تلك اللحظة جالت عيناها بكلِّ ما أوتيت من بصرٍ و بصيرة في ذلك البياض الملائكي الذي كسى أسطح البيوت و الأرض والشّجر والدّروب، والغريب أنّ السّكون كان طاغيا رغم كل الأصوات! كأنه وشاحٌ شفاف مضاد للصّوت والضّجيج...

 

: تنقَّلتْ نظراتها بشكل بانورامي ماسحةً كلّ جغرافيا المكان

الأفق هناك في البعيد تَعانَقَ بلا حدود مع السّماء البيضاء التي شابتها ضربات رمادية بكلّ تدرجات الرمادي...

أشجار الزيتون في البقعة الواسعة أمام المنزل تتدلّى أغصانها وهي تنوء بالبياض، وأسرابٌ من عصافير الدُّوري تزاحمت في البقعة التّرابية الحمراء الدّائرية حول كلِّ شجرة -والتي لم تصلها الثلوج- وكأنّها تحتمي من ذلك الفراغ الأبيض البارد حولها، وتُزقزق مصدرة ضجيجا هائلا...

 

شجرة تين ضخمة هائلة عارية وقفت شامخة عالية وحيدة في كرم الزيتون، تلك التّينة المُعمِّرة لطالما كانت ملجأها ومأواها، تتسلق ذلك الجذع الضّخم الفضي، و تفترش غصنا قوياً من تلك الأغصان عندما تورق ثم تُثمر، فتجلس وأرجلها تتدلى -لتهزم رغبتُها صبرَهَا الطفولي كالعادة - وتتناول الثمار قبل نضوجها ثم تتورّم شفتاها من حليب الثمار غير الناضجة، وتبقى في ألم لا يزول سريعا لكنّها تنساه في بداية إثمار كلّ عام، فتعود لفعلتها وتتورم شفاهها ثانية وثالثة...

 

شجرة التين كانت كعروس الكرم في هذا اليوم المُثْلج؛ فاكتست بثوب أبيض غطّى كلَّ تفاصيلها العارية وأسدل على رأسها وشاحا حتى أخمص قدميها، وبقيت شامخة أزليّة الجذور...

وأخوها كان تحت شجرة التين يبني رَجُلَ ثلج ضخم، ويرسم العينين بالطين الأحمر، ويُثَّبتُ جزرةً للأنف، ثم تنساب ريشته ليرسم الفم المبتسم بالطين أيضا...

حاولتْ أنْ تخطو ولكنّها لم تستطعْ وانزلقت قدمها من الحذاء الواسع الكبير، ولم يكن يبدو أن أحدا يراها أو مهتمّ بها إلى أن التفتَ أخاها وناداها باسمها وأشار لها أن تأتي وهو يبتسم بحماس، وحاولت أن تستنجد به لكنه لم يسمعها...

بدأ صبرها ينهزم مجددا أمام الرغبة العارمة، إلا أن قدمها لم تسعفها، وأحست بالعجز والضعف إلى أن رأت أخاها يركض مسرعا إليها ويحملها على كتفه بذراعيه مفتولتي العضلات، ويهرول فوق الثلوج باتجاه التمثال...

وقفَ أمام التمثال وابتسامته تتفجّر من عينيه قبل شفتيه، وأنفاسه لاهثة تتحوّل إلى بخار في كثافة الهواء البارد، وكانت قدماها تتدليان فوق كتف أخيها بعد أن سقط الحذاء الواسع من رجليها وهي تبتسم محاولة تدارك الألم، إذ إنّ صبرها ينهزم مجددا ومرارا أمام رغبتها؛ فقد أرادت أن تتلمّسَّ رَجُلَ الثلج ذاك.

مدّت يدها ولمست وجهه وقبعته وأزاره التي جعلها أخوها من خشب أغصان شجرة التين، ولم تستطع الانحناء أكثر، وقد بدأت أصابعها تحمّرُ، وقدمها تَزْرَقُ وتتوّرم أكثر وهي هي تقاتل صبرها حتى آخر رمق، وكان لا بد من حدّ فاستدار أخوها وأعادها للمنزل عِنوة.

أسقطها أمام المنزل وطفق راكضا باتجاه تمثاله الثمين...

فتحت يدها الصغيرة وهي تبتسم وفي قبضتها كومة ثلج، و بخفّة وسرعة ابتلعتها...

أّمّها موبخة :

-لا تأكليها يا صغيرة ألا تعرفين؟!

 

وغنّتْ أمها تلك النشيدة عن أكل الثلج:

"أول يوم سمّ...

ثاني يوم دمّ...

ثالث يوم كُلْ ولا تهتم... "

في تلك الليلة غفت الصغيرة وهي تتخيّل أنّها أكلتِ السّم، وإذا لم تمت وهي نائمة فستصحو لتشاهد الدّم فوق الثلوج البيضاء التي ما زالت تتساقط بغزارة، وتذرو الرياح الندف البيضاء لتتراكم طبقات غطّت حتى نصف الأبواب المغلقة.

*****

ثاني يوم:

استفاقت على أصوات أخوتها يحاولون فتح الباب الذي تراكم خلفه الثّلج عاليا، وعندما فتحوه تعالتْ صرخات الدهشة وتراجعوا إلى الخلف، ولكنّ أخاها الأكبر رفع عن ذراعيه المفتولتين وشقّ دربا بجسده إلى الباب الخارجي، فتبعه الجميع إذ أنّه يوم لا يُفَوَّتُ أبدا وقد لا يشهدون الثلج يتراكم بهذا الارتفاع مجددا...

كان توّرم وألم قدمها قد خفَّ كثيرا، واستطاعت ارتداء جورب ولكنّها اضطرت لانتعال حذاء كبير حتى لا يضغط على قدمها، وحاولت أن تتبع أخاها حتى شجرة التين والذي التفتَ إليها ونهرها لأنها لا تغطي رأسها من هذا البرد الشديد، ثم ابتسم وسألها أن تبقى مكانها وهرول إلى المنزل...

كانت رياح باردة خفيفة تعبث بشعرها الأسود المتموّج وتجعل أذنيها تتجمدان من البرد، وهي هي ما زالت تصارع صبرها الطفولي مرارا وتكرارا إلى أن وصل أخوها حاملا معه قبعة صوفية ودفتر رسم وريشة...

ألبسها القبعة وأجلسها على غصن مكسور بجانب جذع التينة وبدأ برسمها...

أجمل تلك اللحظات كانت عندما يرسمها أخوها بشغف وحبّ، فينبض قلبها الصغير وتَحْمّر وجنتاها ثم يتفنّن أخوها بتلوينها وإظهار براءتها.

راقبت البياض حولها في كلّ مكان وراقبت ندف الثلج تتساقط وتتلوّى في السماء حين تنفثها الريح، وراقبت يد أخيها ترسم تفاصيل وجهها بلوحة سوف تسميها لوحة الثلج.

راقبت و راقبت و لم يكن هناك دمّ، فمدّتْ يدها الصغيرة -بعد أن انهزم صبرها أمام رغبتها- وتناولت كرة ثلج وأكلتها...

أخوها موبِّخا:

-لا تأكلي هذا يا صغيرة! ألا تعرفين؟!

ثم غنّى :

"أول يوم سمّ...

ثاني يوم دمّ...

ثالث يوم كُلْ ولا تهتم"

في تلك الليلة غفتِ الصغيرة دون خوف؛ فلم يكن هناك دماء ولا سموم، وكل شيء بخير فما زال الثّلج يتساقط والريح أضحتْ رفيقتها  و ستصحو لتأكلَ الكثير من الثلج ولا تهتمّ...

*****

ثالث يوم:

هذا الصباح لم تكن صرخات فرح ولا دهشة ولا انبهار، كانت صرخات خوف ورعب، فقد أخرجتِ الليالي الثلاث المُثلجة الضّباعَ من أوكارها، ونزلت من الجبال جائعة مسعورة تحاول اصطياد فرائسها التي شحَّتْ في هذا البياض البارد المُقفر...

كان أحد الضّباع يحفر تحت الباب محاولا الدخول للمنزل ولا بد أن قطيعا خلفه، وازداد الخوف وهم قد بدؤوا برؤية مخالبه تظهر من تحت الباب، فما كان من أخيها الأكبر إلا أن أحضر فأسه التي تركها بالأمس خلف الباب عندما شقّ تلك الدّرب في الثلج، وقطع يد الضبع الممتدة من تحت الباب، فبدأ الضبع يعوي من الألم وابتعد مع قطيعه وهم يسمعون ضربات أرجلهم فوق الثلوج...

هذه المرة راقبت عيناها دمّ الضبع على الثلج الأبيض...

هذه المرة كان هناك دمّ...

سرعان ما نسي الجميع أمر الضباع، وسرعان ما تلاشى الدّم تحت ندف الثلج المتراكمة وهرع أخوتها يغرفون الثلج في صحون ويضيفون دبس قصب السّكر له ويأكلون دون أن يهتموا...

وهي هي هزمَ هذه المرّة صبُرها رغبتَها التي ماتت، لن تأكل ثلجًا لوثته الدماء...

حاولتْ أن تجرَّ قدمها التي ما زالت تؤلمها قليلا حتّى شجرة التين، ثم تسلّقتها وجلست أعلى الجذع الضخمة المُدوَّرة، فهنا ملجأها والضّباع لا تستطيع التسلّق والوصول إليها، وعادت لتمسح بنظرها المكان :

كان الثلج قد توقف وبدت الريح أكثر هدوءً وأقلَّ برودة، والسماء فكَّتْ عناقها مع الأفق و شابتها ضربات من اللون الأزرق ، وعصافير الدُّوري بدأت تتنقل طائرة هنا وهناك، ثم وفجأة سقطت قطرات من الماء فوق صيوان أذنها وتكاثرت على يدها، لقد بدأ الثلج يذوب...

عندما نزلتِ التّينةَ، كان الوقوف والتوازن صعبا على الثلج الذائب، وطَفِقَتْ قطراتٌ من الماء تتسرّب في جزمتها مبلّلةً قدميها، وكانت تصارع للمضي قُدمًا عندما مدّ ذراعه المفتولة وحملها إلى المنزل...

في تلك الليلة غفت بسرعة تَعبة؛ فقد أنهكتها الأيام المُثلِجة الثلاث وكبرتْ فيها تلك الطفلة ثلاثة أيام، بدت لوهلةٍ أنَّها سنون...

*****

 بقلم : نادية محمود العلي 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق