الأربعاء، 23 نوفمبر 2016

مقتطفات من أنشودة المطر للشاعر بدر شاكر السياب


مقتطفات من :

أنشودة المطر

للشاعر بدر شاكر السياب ..



عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
 
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر .
 
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
 
وترقص الأضواء ... كالأقمار في نهَرْ
 
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
 
كأنما تنبض في غوريهما ، النّجومْ ...
 
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
 
كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء ،
 
دفء الشتاء فيه و ارتعاشة الخريف ،
 
والموت ، والميلاد ، والظلام ، والضياء ؛
 
فتستفيق ملء روحي ، رعشة البكاء
 
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
 
كنشوة الطفل إِذا خاف من القمر !
 
كأن أقواس السحاب تشرب الغيومْ
 
وقطرةً فقطرةً تذوب في المطر ...
 
وكركر الأطفالُ في عرائش الكروم ،
 
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
 
أنشودةُ المطر ...
 
مطر ...
 
مطر ...
 
مطر ...
 
تثاءب المساء ، والغيومُ ما تزالْ
 
تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ .
 
كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام :
 
بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ
 
فلم يجدها ، ثمَّ حين لجّ في السؤال
 
قالوا له : "بعد غدٍ تعودْ .. "
 
لا بدَّ أن تعودْ
 
وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ
 
في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ
 
تسفّ من ترابها وتشرب المطر ؛
 
كأن صياداً حزيناً يجمع الشِّباك
 
ويلعن المياه والقَدَر
 
وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ .
 
مطر ..
 
مطر ..
 
أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر ؟
 
وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر ؟
 
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع ؟
 
بلا انتهاء – كالدَّم المراق ، كالجياع ،
 
كالحبّ ، كالأطفال ، كالموتى – هو المطر !
 
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
 
وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ
 
سواحلَ العراق بالنجوم والمحار ،
 
كأنها تهمّ بالشروق
 
فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ .
 
أَصيح بالخليج : " يا خليجْ
 
يا واهب اللؤلؤ ، والمحار ، والرّدى ! "
 
فيرجعُ الصّدى
 
كأنّه النشيجْ :
 
" يا خليج
 
يا واهب المحار والردى .. " 


في كلّ قطرة من المطرْ
 
حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ .
 
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
 
وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ
 
فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد
 
أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ
 
في عالم الغد الفتيّ ، واهب الحياة . "
 
ويهطل المطرْ ..
 

 ****

الشاعر : بدر شاكر السياب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق