رسالتي الورقية
على غير صورته و هيئته المحفورة بالذاكرة،
بدا شابا ألقت عليه متغيرات العصر و صرعاته الكثير من السمات.
فقد تخلى عن بزته العاجية التي لا أدري إن
كانت حينها على سبيل تقديس لمهمته كإزار ضيف البيت العتيق، أم أنها كانت كدرع محارب
لا يخوض معركته بلاه، لكنه و بعد تلك السنوات، حذا حذو كل شيء و لم يبق على حاله،
تنازل عنها ببساطة، كما استبدل حقيبته التيل بأخرى جلدية تتناسب مع ما آلت اليه الأوضاع من حداثة و تقدم
كان ذلك عند الظهيرة، و بينما أنا في مطبخي غارقة بين قدر هنا و مغرفة هناك، قَرعَ جرس باب بيتي
بعد أن هَجره عقدين من الزمان,,,,
"ساعي البريد" - ذاك رده من خلف الباب عندما سألته في حذر: من
الطارق؟
ثم أردف: رسالة من .... إلى ....
حينها تصاعدت نبضات قلبي عازفة الحان فرح لعودة مشهد غاب عن حياتي مؤخرا، و سيمفونية حماس
لحروف تصطف من اجلي أنا داخل مغلف الرسالة..!!
في عجالة
و على غير عادتي فتحت الباب و مددت له يدي بلهفة لأتناول مغلفي من بين بضع
مغلفات يطوي عليها أنامله .
عندما
قاطعني في هدوء سخيف قائلا : السلام
عليكم ، اثبات هويتك من فضلك..
هويتي..!؟
ويحك يا هذا... أي هوية تلك التي تطلبها و
تحول فيما بيني و بين رسالتي الشهية البهية..!؟- كان هذا ما حدثتني به نفسي حينها
عندما اعتذرت له و انسحبت لأبحث عبثا عن اثبات هويتي المنشود.
فحقيقة الامر أني لا اذكر بالتحديد متى كانت
أخر مرة شاهدت فيها هويتي و لا أدري حتى
أين يمكن أن تكون، ربما تكون هناك في ذاك الصندوق الخشبي القديم أعلى
السقيفة تنام في وئام بجوار شهادة تخرجي و
ما إلى ذلك ... ربما ..!!
فبحكم
كوني ربة منزل تنازَلت راضية عن هويتها في
مقابل دعم هوية اسرتها الصغيرة، نادرا ما
أتعامل مع الأوراق الرسمية أو أحتاج اليها..!
فأنا مؤمنة تماما بحجم الدور الذي أقوم به، و
اخترته بمحض ارادتي قبل عشرين عاما، كان ذلك
ليقيني باهمية تفرغ الام التام
لصغارها ،فقد كنت تلك الطفلة التي تتقن جيدا فن ممارسة الصباحات و المساءات بلا أم، و
قررت حينها بيني و بيني أن ارسم لصغاري حياة مختلفة.
ويحي كم أنا غبية هل هذا هو الوقت المناسب
لتقييم مسيرة حياتي.. ساعي البريد بالباب...!!
و
بينما طفقت افتش في محفظتي عن رخصة القيادة تذكرت أني دائما ما اتركها بالسيارة،
عندها هرعت إلى جارور الخزانة اقلب بين
الأوراق يمينا و يسارا فإذ بجواز السفر ينتشلني من غرقي ...
جواز السفر ...!!؟ نعم نعم جواز السفر إنه
يفي بالغرض
التقطه و من فوري توجهت إلى ذاك المنتظر خلف الباب..
و إن بدا عليه أعراض التململ إلا أنه نظر
مليا في الجواز بعد أن رفع نظارته
السوداء ربما ليرى بوضوح أو ليريني بوضوح أنه يتوجب علي شكره عن دور قام به من
اجلي و كان من الممكن أن استعيض عنه بوسائل العصر الحديث..!!
في نهاية الأمر و بعد أن وقعت بالاستلام في
دفتره شكرته ربما بدافع الكياسة أو الواجب ,,, لا بأس سيان,,,, و إن بدا لي أن
كلمات الشكر لم تكن غايته المنشودة..!!
اه و أخيرا أصبحت رسالتي بين يدي ,,,, -حدثتني
نفسي -هل افتحها..؟
لا...
كلا ,,,فحدث جلل كهذا لا ينبغي له أن يمر هكذا ببساطة، بل يجب أن تتم
الأمور بشكلها الصحيح..!
سأفض المغلف في المساء و بعد الانتهاء من كل
مشاغلي ، و حتى ذاك الحين أكون قد استمتعت
بنشوة استلام رسالة حتى اخر قطرة...
جاء المساء
و معه انتهيت من مهامي و التزاماتي نحو أسرتي و أصبح من الممكن القيام باحتفال صغير
يجمعني أنا و رسالتي و لا بأس بفنجان من معشوقتي السمراء يصاحب السهرة.
ترى ماذا يضم مغلفي بين طياته ..!؟
كان هذا السؤال الذي تردد ببالي مؤخرا عندما
قطعت صديقتي وعدا بأن تلبي لي رغبة استلام رسالة ورقية، على الرغم من تواصلنا على
مدار الساعة بوسائل الاتصالات الحديثة..!!
لا بأس فإجابة السؤال تكمن بين يدي الآن، و على
الرغم من جنون الفكرة إلا أنها وجدت طريقها على أرض الواقع و الفضل يعود لصديقتي
الغالية.
و هنا بدأت طقوس الاحتفال بتأمل بسيط
للمظروف من الخارج، بدا لي فخم بشكله
المستطيل و إطاره المعهود و إن غاب عنه
الطابع البريدي بحكم تطورات العصر- يا
لهفي على من كان له جمع الطوابع غاية و هواية- لكن تلك الاختام الحمراء و الزرقاء كانت متناغمة مع
المظهر العام ، و إن لم اكن يوما ممن يملكون مهارة فراسة الخط إلا أن عيني لم تنكرا
مدى جمال الحروف و انسيابها في ثبات ينم عن يقين صاحبها، من الملمس عرفت أن
بالمظروف بطاقة و رسالة....شيء جميل,,
بحذر فتحت الظرف فعلمت أن حدسي قد أصاب،
فظرفي يحمل بطاقة من دمشق، عتيقة مصفرة بفعل الزمن، من جهة عليها صورة
لزهور بخور مريم البيضاء الجبلية ، و من الأخرى خلدت صديقتي بأناملها حروف للذكرى مؤرخة.
أما عن الرسالة فما إن فتحتها إلا و وجدتها تضوع بعبير العفوية و الصدق و المودة، تتوج بحروفها علاقة خاصة
فريدة من نوعها، علاقة تتنفس نسيم الحرية في ظل زمن سطوة القيود، علاقة موثقة بعهد
جمعنا كروحين تألفتا في الفضاء، علاقة تفاهم و تفهم وإيخاء في الله و لوجه الله .
و إن فرقتنا بقاع الارض و
الخريطة، يكفينا ذاك الركن المميز يجمع
شتاتنا... كان ذلك مضمون رسالتي الورقية..!!!
دعواتي لك يا نقية القلب أن يسر الله قلبك بسلام تحت عريشة ياسمين الشام
نسرين مصطفى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق