( جنون مايو )
خيوط
الشمس تخترق نسيج الستارة المُسدلة وتوقظ العيون الناعسة رغما عنها ، فالسماء
صافية زرقاء والشمس ساطعة باهرة والحرارة تكاد تدقُّ أبواب الأربعين درجة ...
وما هي
إلا دقائق حتى تنفخ الرياح الستارة وتضرب مصراعي النافذة بشدة وتصفر صفيرا مهيبا في
التجاويف الضيقة ،فتغصّ السماء بهالة غبار برتقالية ضخمة تهتك خيوط الشمس وتذوي
بضوئها ، ثم تتلبّد السماء بالغيوم الرمادية فترعد وتبرق حتى تظن أن وابلا عارما سيهطل
من السماء لساعات ،لكن هي زخات قليلة تترك
آثارا مدوّرة على زجاج النوافذ والسيارات
ثم تختفي ، وتعود السماء صافية زرقاء قد تتخللها غيوم متقطعة بيضاء كالثلج
تتناثر هنا وهناك ، ثم في ذات الليلة تنفخ الرياح الشديدة مجددا عواصف الرمل في رئة
السماء والبشر ، وبعد قليل تترنم قطرات المطر في خجل ترنيمة قصيرة وتذوي ...
إنه شهر
مايو، من المفترض أنه شهر الربيع، ولكن ليس هنا، فها هنا لن ترى أشجارا تقلّدت الزهورُ أجيادها ، ولا أرضا مبسوطة لبست حلة
السندس الأخضر، ولا ورودا أثقلت غصيناتها براعم جديدة ، لن ترى عرس الربيع الذي
يتغنى به الشعراء ويتبارز الرسامون في مُماهاة لوحاته النابضة بالحياة ، هنا سترى
شهرا توشّح الجنون ، وامتهن ألعاب الخفة فيعطيك بيد زهرة وبالأخرى يقلبها شوكة ...
هذا النمط من تقلُّبات الجوّ صار رتما كئيبا لم نكن ندري أهو نقمة
تنفثها الصحراء فوق رؤوسنا أم ابتلاء من الله جلّ وعلا ...
تركتُ
نافذة غرفة الجلوس مغلقة لأكثر من أسبوع مخافة الغبار الذي يأتي ويذهب دون إيعازات
، وعندما فتحت النافذة فوجئتُ بيمامة قد حاكت بغصينات يابسة عشا صغيرا ووضعت فيه
بيضة واحدة ..
طارت مبتعدة بوجل وانتظرتْ حتى أغلق النافذة
وتشعر بالأمان فتعود لترقد على بيضتها ...
كنت
مستاءة لأني أريد تنظيف النافذة ولا أريد أن أهدم عش اليمامة وأقتل مخلوقا ينتظر
أن يُقبّل وجنة الحياة ...
لماذا
بنيتِ عشك هاهنا يا صديقتي اليمامة ؟ هل كنت خائفة من جنون مايو وقلقلة من ممارسة
ألعابه عليك فلجأت لزواية ذلك الشباك الصغير ؟
حسنا لا
تقلقي سأنتظر حتى يكبر فرخك فلربما تعتادين تقلبات الربيع والحياة !
لا أريد
أن أكون أحد مخاوفك، فلكل منا طريقته في مواجهة مخاوفه ،قد نتحداها ببسالة ،وقد نقضي
حياتنا نهرب منها وتلاحقنا ، وقد نتماهى فيها حتى تعتادنا أو نعتادها فلا نعود
نراها ...
ها هي
الصحراء من جديد تُحمّل الرياحَ رمالها ، فتنثرها تلك في هواءنا ضبابًا برتقاليًا
يجثم سويعات فوق صدورنا ، ويبقى لكل منا طريقته في الهروب من جنون مايو ...
*****
بقلم نادية محمود العلي