فأشمُ ريحٓكِ لولا تُفنّدون!,,, النص للكاتب" حسام مصطفى إبراهيم"
لماذا أتحدّثُ إليك الآن وبيننا ما بيننا؟
لأن كعوبي تعِبتْ من اللفِّ على القلوب واستجداء لحظةٍ حقيقية كالّتي لفّتنا ولم تَدُم، وبوصلتي تعطَّلتْ فلم تعد تشير إلا إليك، وكل ما يجري أمام عيني –دونكِ- يبدو هزليًا للغاية ومراوغًا لا يستحق عناء الانتباه إليه.
وَعيي حبُس في لحظةِ فراقنا، ومشاعري التفَّتْ حول نفسها في وضع الجنين -لتحميكِ داخلها وتضنّ عليّ بانتزاعكِ من قلبها مهما فعلتُ- في انتظار قيامةٍ مُحيية أو موتٍ كاملِ الرجولة يضع توقيعه على تصريح الدفن!
لا أنام ولا أصحو، لا أذهب ولا أجيء، لا أعيش ولا أموت... لقد توقفتُ في المنتصف من كل شيء، واستوطنتُ المساحةَ الرمادية التي لم يَرجع أحدٌ ممن أبحروا إليها قبلَا، ولم أعد أعرف كيف أنحاز.. كيف أفاضل.. كيف أخذ الخُطوة.. كيف..
في لحظات الألم.. أرفعُ رأسي للسماء، أحتضنُ المطرٓ مُغمضٓ العينين فأشمّ ريحٓكِ لولا تُفنّدون، هذه السحابات.. علّها تكون قد مرّت فوق رأسكِ لحظةً قبل أن تُنجب قطراتها، أفرشُكِ رملًا على شاطئ الوحدة، وأتمدد عليه عاريًا بلا حسابات، أبني قلاعًا وقصورًا وحفرًا عميقة أخبئ فيها ألعابي وهزائمي وخوفي من الذين يقتربون حتى تتلامس الأنفاسُ فتنعجن، ثم يبتعدون حتى يصبحوا شُهبا في سماء بعيدة غائمة بلا تليسكوب واحد لرصدها!
يغيضُ الماء في قلبي، فتتقافز أسماكُ حزني مَادةً خياشيمها لأقصى درجة، محاولةً الإمساك بآخر ذرة هواء مغادرة، لقد أيقنتْ من الموت لكنها لا تمانع في نَفَسٍ أخيرٍ وغالٍ يُذكِّرها كيف كان يمكنها منذ لحظات أن تنعم بما لم تعرف قيمته وقتها!
تقذفُ كلمةٌ عابرةٌ شجرةَ ذكرياتي، فتهتز وتسَّاقط مطرًا أسود يشوي الوجوه ويُحرق الزرع، فلا يبقى سوى يَبَسٍ وفراغ يتمدد حتى يُغلّف المشهد كله، وينزع عنه ألوانه، ويترك كل شيء –كقلبي- بالأبيض والأسود.
للوقتِ ثِقَلٌ حقيقي لا يُسعفني الصحاب/التسكع/الرمرمة/الغياب في حمله، ولا طعنه، ولا هدره، فأستسلم –يومًا وراء يوم- لفكِّهِ أزرار حزني، زرا وراء زر، ومروره بعجلاته المسنونة على لحمي، وتركه كل هذه الوشوم التي تستيقظ ليلا لتهتف باسمك!
ماذا أريد؟
لا شيء.
أنت أكبرُ من قلبٍ واحدٍ وعمرٍ واحدٍ، وأبوابُ مودّتك الموصَدة لم تُخلق ليمرَّ منها شخصٌ واحد، ربّما.. في مساحة أخرى من السماح، يكون لي منك ما هو أعمق قليلا من التفاتة، وأحنّ من حضن، وأبقى من لمعة نجمة لقيت حتفها منذ عشرات السنين الضوئية...
ربما...
...
سافرتُ كثيرًا، ولم أصل إلى أي مكان، وقرأتُ كثيرًا ولم أقبض على شيء، فأقعيتُ تحت قدم اليأس، أقلِّمُ له أظافرَه، وأقرأ عليه وِرْدَ الفَقد والانتهاك، صرتُ كثقبٍ يتّسع كل يوم لمزيدٍ من الأحزان، أو كمِرآةٍ مزيّفة تمتصّ الضوء ولا تعكسه، فتترك الناظرَ إليها حائرًا خائرًا يتلمّس صورته في زجاجها بلا طائل!
أنا القويُ الخائرُ، المؤقّت الأزليُ، العليمُ الجاهلُ، الراغبُ النافرُ، المرعب الحنون، نحرتُ وجودي على مذبح غيابي، فاختلطَ رمادي بذرّاتِ ما لم يُخلَق بعد، فوقف كلانا على قمة هذا العالم لا يشتهي شيئا ولا يخاف شيئا، لأنه أدرك أنه كلُّ ما يستحق أن يحصل عليه.
...
ألفلفُ العالمَ سيجارةً، أضعُ طرفها في فمي وأُشعلها، ومع أوّل نَفَسٍ يخرج، تتقشّر حياتي عنّي، وينزّ الوجع مع اللذة، تنقرض المدن، تتحوصل المجرَّات، ويبدو كلُّ شيء كـ لا شيءٍ تمامًا تمامًا.
أُدخِّن الصحابَ، الفرصَ الضائعة، الحكايات، الشيفتات، الوقت، الخوفَ، الأمنيات، التاريخ، الوَلَعَ، التعلّق، العشمَ، اللهفة...
أُدخِّنني..
حتى أتبددَ..
زفرة.. تلو زفرة.
بقلم/ حسام مصطفى إبراهيم