الحياة - الموت - قطوف - دانية - نخيل - احتياج -
قطوفٌ دانية
في مكان ما بين الذّرات والخلايا وبقدر ما تضجُّ الحياة ،
يختبئ ويتربصُّ الموت أيضا ، وبقدر ما يبدو الموت مُنقضَّا مُفاجئا مخيفا بقدر ما
هو مُتربصّ بطيء صبور ...
كانت فيما مضى مزرعة نخيل هرمة ، قدمها مالكها " أبو عبد
الرحمن " لأمانة البلدية ، ودفع
الأموال لتغدو حديقة غنَّاء متفجرة بالحياة والصِّبا ...
اعتدنا على رؤيته
يتجوَّل يوميَّا في ممراتها يلتقط بعض العبوات الفارغة ويرميها في الحاوية ، ثم
يرمي السّلام ويسرع إلى المسجد المقابل للصّلاة ..
عندما ألمحه بثوبه
الأبيض وغترة رأسه البيضاء مقبلا من بعيد يميل على جنبيه ، تنتابني مشاعر متضاربة
من شفقة وحزن وتوجّس ، ربما لأنه شديد الشّبه بأبي - رحمه الله وغفر له – وربما
لأنّه يتوكأ على عكازه يجدُّ الخُطا فيبدو جسده قفصا تتصارع فيه الحياة والموت
ضدين أو شريكين ،لا أدري حقا ...
زوجي يسرع إليه بكأس شاي وقطعة حلوى ، فيعتذر لأنه ممنوع من
المنبهات والحلوى بسبب سنه ال 96 عاما
ومرضه بالسكر ...
ونوَّهَ إلى أنّ البعض يظنه مسكينا حتى أن أحدهم حاول إعطاءه
نقودا ، لكنه - ولله الحمد - لا يحتاج أحد فذاك قصره وتلك قصور أولاده ...
كان يستوقف بعض المارة
ويخبر الجميع بذلك ، ونفكر بامتعاض أنه يُذهب حسنات صدقته وأعماله بالحديث
عنها ، لكنّه ربما يفعل ذلك حتى لا يشفق عليه أحد أو يظنه محتاجا ، فنظرات الشفقة
مؤلمة وجارحة بقدر نظرات الحقد والكره ، أو ربما لأنّ كبار السّن يشعرون بالوحدة
دائما وبالعزلة بعد أن ملّ وضجر أولاده وأحفاده من الاستماع له فما وجد إلّا
الغرباء ليحكي لهم ...
ها قد أزِفَ موعد استواء عناقيد النخيل التي ناءت بما حملت
فدنت حتى كادت تتكسر ثم بدأتْ تجفّ وتسقط ويدوسها المارَّة بأرجلهم ، أو يعبث بها
الأطفال فتذوي وتذبل ...
كان منظر القطوف الدانية مغري للقطاف وللتذوق فكنا وكان الجميع لا يقاوم رغبة قطف ثمرة وأكلها وهي
تتدلى خمرية اللون مدورة كعناقيد الكرمة
الشهية تنوء بحملها ناثرة عبقا من ريح الجنة ، ونتساءل لمَ لمْ تُحصَد حتى الآن !
حتى أخبرنا أبو عبد الرحمن ، أنَّ أولاده رفضوا قطافها فهو قد تبرّع بها للبلدية
فلينسَ أمرها ، ثم تضافرت و تزاحمت الدموع في عينيه وسالت بشحٍّ من جُنبات أجفانه
الهرمة ، لأنه يتألم أنها متروكة هكذا هباء ، والبعض لا يجد قوت يومه أو يموت جوعا
، بل ويشتهي هو أن يتذوقها ويمنعه مرضه ... ثم مدّ يديه المتجعدتين وقطف بعض
الثمرات ،وضع خمس حبات في جيبه لأكلها خُلسة ووضع باقي الحفنة في يديّ زوجي ،
وسأله أن يقطف ما يشاء منها قبل أن تجفّ وتموت ...
فضَّلنا أن نتذوقها من قطوفها الدانية ونحن ننتقي الحياة من قلب الموت ، و نخاف أن
نغدو كأبي عبد الرحمن متخوفين من الشفقة والاحتياج نخبر القاصي والدَّان كيف كنا
نضجُّ بالحياة يوما ما ، ننتظر لحظة
انقضاض الموت بعد التربصِّ المديد ، فتوفَّنا اللّهم مع المؤمنين القانتين ...
***
بقلم : مؤيدة بنصر الله / نادية