فانتازيا-جبال-أمي-جدتي-إنسان-لغة-ديناصور-عمالقة-موت-تاريخ-خرائط
فانتازيا تحكيها الجبال
أخي! هل فكرتَ يوما أن الجماد ليس بجماد؟ وأنّ
الصخور تشعر وتنطق بلغة خاصة، ولها القوة لتحكم وتسيطر؟!
إذا سأحكي لك يا أخي قصةَ أو ربما أسطورةَ بلاد
جديدة إن سألتني عنها سأقول: جبال... سأقول
هي على كوكب الأرض إلا أنها تبدو بِكْرا لم تعبث بها يد الإنسان، لا أدري إن كنت
أبالغ لو قلت إنها كالمريخ...
منذ
وطأت قدمي هذي الأرض أو بالأحرى منذ حلقت الطائرة فوقها، رأيت من الأعلى ما كنت
أراه في الخرائط الجغرافية حيث تبدو الحدود واضحة بين اليابس والماء وتتدرج ألوان
المحيطات والبحر الأزرق مع تدرجات ألوان اليابسة البنية بتدرج مذهل كأنها رُسمت بتقنية الأبعاد المتعددة ...
بقدر ما كانت الخطوط بين البحر الأزرق واليابسة البنية
واضحة وحادة، بقدر ما كانت متناغمة ومتعانقة بلمسة جمالٍ إلهيٍ ُمحكم الصنع والخلق،
وقد بدت من الأعلى بقع متداخلة في اليابس بلون قاتم لا شك أنها الجبال تكاتفت بقوة
رغم هرمها وطعونها في السن...
وعندما ركبتُ السيارة كانت تتراءى أمام عيوني
الجبال والجبال والجبال فقط، وكانت ريح دافئة تلفح وجنتي وترشق وجهي بأنفاس جافة
ساخنة كأنها زفرات وتنهدات هذي العمالقة الضخام حولي، وترهق أذني بذبذبات قد تضحك
إن أخبرتكَ أنها كذبذبات الكواكب والفضائيين، ربما هي لغة الصخور تخاطبنا أو تخاطب
بعضها، كأنها عمالقة كانت تتصارع ذات يوم "كان وياما كان" ثم تجمدت
وتحجرت وتراكبت فوقها طبقات الزمن ملونة إياها بتدرّجات الرمادي والصدأ، كأنها
احترقت واقفة من دون ألم، من دون صراخ...
عيوني تمسح الطريق الذي شقته عنوة وحوش معدنية
جرّارة في صدور الجبال الصلدة، والسراب من بعيد يتراءى على الإسفلت كواحات ماء أو
بقايا أمطار غزيرة كلما اعتقدتَ أنك ستدوسها سابقتكَ إلى الأمام بعيدا، لا أحد يا
أخي يلحق أو يسبق أو يمسّ السّراب ...
في كلّ
مرّة أنظر إلى الجبال حولي تبدو وكأنها أول مرة ...
مخيلتي
ترسم أساطير حولها كمخيلة طفل صغير، أفكر أحيانا بمنطقية وعلمية بأنها براكين ثارت
عندما تشكلت أمنا الأرض، وكانت نارا ملتهبة تغلي بالمعادن المنصهرة ثم بدأت تخمد وتبرد رويدا رويدا لتتحوّل
إلى صخور متراكبة، وربما هذا سبب تلك الذبذبات المغناطيسية التي تصدر منها وذلك
الطنين الذي يرافقها ...
وتارة
أخرى أفكر بخيالية وجنون وخاصة عندما أرى ظهر ذلك الجبل الضخم خلف بيتي تعلوه مُسننات
مثلثية رمادية كأنها حراشف ضخمة، وبشيء من الفانتازيا المضحكة أتخيل أنه كان ديناصورا
مهاجرا مع أترابه من قطعان الديناصورات إلا أنه احترق بنيازك رشقت أمنا الأرض أو
بصقيع عاصفة ثلجية هائلة، ثمّ تصلّب وتحجّر وتراكمت فوقه طبقات الرمال والسنون،
ولوهلة أتخيل نهوضه فجأة يصيح وينفض الغبار والحجارة عنه ثم يمشي الهُوينا ساحقا بأقدامه
الضخمة كل ما في طريقه كما في ذلك الفلم الخيالي (غودزيلا)....
والفكرة
التي لازمتني دوما منذ أول لحظة كانت أنّ هذه الجبال تشبه أمي...
نعم
أمي التي لا أتذكرها إلا وهي هرمة حتى في الثلاثينيات من عمرها..
لن
أقول خطَّ الشيب شعرها بل أنه غزاه حتى أحاله هشيما أبيض...
لن
أقول ريشة الزمن رسمت خطوطا على صفحة وجهها، بل سأقول إن إزميله حفر أخاديدا في
ثناياها كهذه الجبال حولي حفرت فيها عوامل التعرية على مرّ السنون...
أمي
بدت كجبل صارع الزمن وبقي واقفا في وجه الريح، داسته أقدام المتسلقين ولم تترك
أثرا، وحاولت المدنية هدمه أو شقه ولم تفلح...
أمي
بيديها العاريتين المجعدتين كانت تحمل الحجارة الضخمة وتُرتبها لَبِنَةً لبنة فوق
طبقات الطين؛ لتبني دارها في الوطن وهي تتباهى بقوة ذراعيها وقدرتها على حمل
الأشياء الثقيلة، فأسرع الهرم بكسرها حتى يطفئ غرورها ...
ولن
أنسى جدتي التي يبست أطرافها وانحنى ظهرها وأقعدتها السنون المائة من دون حراك،
وارتخت طبقات جلدها فوق وجنتيها حتى تدلّت أسفل رقبتها، وبرغم كل شيء تبتسم فتنفرج
أساريرها اليابسة كما يتشقق قالب الكعك في الفرن الساخن، وما زالت أجفانها متدلية
فوق رموشها محاولة طمس تلك الابتسامة، وهي تحكي لي حكايا تاريخية عن أيام الاحتلال
العثماني وأيام "السفربرلك" الصعبة والاحتلال الفرنسي, وكأنها كتاب
تاريخ ناطق، وكأنها جبل تراكمت فوق ظهره ألواح كبيرة خطت عليها الدهور تاريخا لم
يكن بذاك السخاء والعطاء، كان غنيا بالفقر واليأس والعذاب والظلم...
الآن
فقط تمرّ سيارتي بجانب تلك السلاسل الأزلية وأفتح شباكي لتلفحني صديقتي الرياح،
وتتكسر فوق أجفاني باكورة أشعة الصباح، فأتأمل ذلك الضباب الذي بدا كدخان نار
أشعلها تلامس أشعة الشمس مع ندى سطوح الجبال، فتتجمع غيوما بيضاء صغيرة متناثرة
هنا وهناك فوق سفوحها المنخفضة، وبدا غريبا وجودها هناك في الأسفل عند أذيال الجبل
وهو ماشق رأسه أعلى منها بكثير وكأنها تتوسل للجبل ليرفعها عاليا -فالغيوم مكانها
فوق في السماء- وعندما سمح الجبل لها بالارتقاء أخيرا تبددّت بحرارة الصباح التي
بدأت بالارتفاع...
جدتي وأمي
ترقدان بسلام بين أقرانهما، كلّ جبل ملقٍ رأسه على كتف أخيه، والجميع نائمون غير آبهون
للحصى التي تلقيها الرياح، ولا لأزاميل الإنسان وشفرات الآلات، ولا لصدى هدير
السيارات...
تمنيتُ
لوهلة أننا عندما نموت نتحوّل إلى جبال....
أخي! هل
تنهض الجبال يوما ما عندما ينفخُ في المزمار؟!
******
نادية محمود العلي