رجل في غيبوبة
كظلال
الشّمس الأزليّة تطول وتقصر وتتلوّى مع انثناءات الأشياء رهينة الضّوء والوقت ،كأشباح
الطّرقات الظّلماء بلا نهاية هائمة في المتاهات والتعرّجات ،تائهة روح ذلك الرّجل
،سابحة في برزخٍ مُرِجَ فيه بحرا الحياة والموت يلتقيان عند خطٍّ رفيع ولا يمتزجان
،تبحث عن جسدها الفاني لتجده ذاهلةً مستلقيا فوق السّرير الأبيض بلا حراك تتدلّى الأنابيب وتتشابك داخلة وخارجة من
جسده موصولة بالأجهزة الّتي ترصد بكلّ دقة النبضة والنفس وضغط الدّم وكلّ مؤشرات
الحياة المعروفة ...
واستغرق
الأمر منها برهة لتكتشف أنّ جسدها قد دخل في غيبوبة...
حيرى
ومرعوبة تراقب قفصها الّذي تشابكت وتقاطعت فيه قضبان اللّحم والعظم وتصغي لأصوات
الأطباء يؤكدون أنّ هذا الجسد المُكبّل بأصفاد الأنابيب والأجهزة الطبية لا يشعر ولا يسمع ولا يرى ،وعندما ترمش عيناه
وترتعش أصابعه لا تظنوه قد استجاب ،إنها حركات لا إراديّة ...
لم تلبث
أن شعرت الرّوح الهائمة بالرّاحة وهي تتعرّف على وجوه الأهل والأحبّة تحدّق عيونهم
في جسده ،تتأمّل الحياة والموت معا حُبسا في حلبة النزال وتُركا يتصارعان كفارسين
في الوغى ..
ولكنّ هذه
الرّاحة لم تدم طويلا وهي تسمع ابنته الكبرى -يتصاعد الشّرر من عينيها - موّجهة
الاتهامات لزوجته الثانية :
-
تبّا لك ! أنت أيتها الأفعى ،أخذتِ أبانا منا واستحوذتِ عليه كالسّاحرة
الشّمطاء ،لن تتخيلي الآن ماذا سأفعل بك ..
تصاعدت الأصوات الغاضبة وكادت تتشابك الأيدي الحانقة ،وكانت تتألّم روح
الرّجل وتريد أن تصرخ أن تقول :
-
أنا هنا احترموني ،احترموا جسدي العاجز !
لكنْ عبثا تُحاول أن تُنطِقَ ذلك اللّسان وعبثا تُجاهِدُ أن تكسر تلك
الأغلال ،وتألّمتْ وهي تسمعهم يهمسون عن الميراث والترِكة جازمين بموته...
أرادت روح الرّجل نادمةَ أن تدخل ثانية إلى جسدها ،هناك أمور عالقة
عليها تداركها ، ودعوات لله عليها أن تدعوها ،وكلام مهمّ كثير يجب أن تقوله ،وتصرّفات
كان عليها فعلها وأخرى لم يجب فعلها ،إنها عاجزة كذلك الجسد ،مغلولة حتى العنق ،مذبوحة
حتى النّخاع، خرساء كالصّخر...
لم تستطع أن توقفهم وهم راحلون من المستشفى ولا أن تهمس في آذانهم
حروفها العالقة بين تلك الشفتين،وكلّ ما رأته تلك الوجوه الغاضبة تبتعد كسراب على
الدّرب ،وتلك الدّمعة تنحدر من زاوية الجفن وتسيل أعلى وجانب الوجنة ثم تذوي لتمتصّها
وسادة الرّجل في الغيبوبة ،ّدون أن يلحظها أحد إلا ذلك الجهاز يعطي إشارة متعرّجة
على شاشته ،ثم تَسكتُ كلّ علامات الرّجل الحيويّة بصمتٍ شديد يخفي في ثناياه عاصفة
الموت،حاجبا الرؤية عن الرّوح التي اختفى جسدها في ضباب عارم ...
****
بقلم : نادية محمود العلي