" قصة قصيرة "
(عندما تبدو الحياة متوقفة )
مختبئةٌ
بين طيّاتِ الحواري ، خجلةٌ ربمّا من خطوط الزمن ، فهي مزرعةُ نخيلٍ منهكة متعبة "
أكل الدهر عليها وشرب " حتى ناءت أشجار النخيل الباسقة بأحمالها وتساقطتْ رُطبا
أغرقتْ ماتحت ظلال النخل ، فجفّتْ ويبست الثمرات
ولمَّا يلتقطها أحد ...
مررنا
بجانبها صدفة ، ودخلناها هروبا من زحمة البشر ...
وكانت
مهجورةً فيها ساحة رملية للألعاب ، ركض أطفالي إليها فإذ بها صدئة متآكلة ، والنمل
بنى بيوته حولها ...
جلسنا
على مقعد خشبي مهترئ - صنعتْ فيه عناصر
الطبيعة ما صنعتْ - نشرب قهوتنا ، وأطفالي
يصيحون : - ماما ! نملة هنا ، وهذه أخرى
هنا ...
وكنا
لا نسمع إلا صوتا أخافنا يشبه أصوات فأسٍ تقطع سُعف النخيل الجافة ، أو شخصا يجرجر أفنانا عارية ، وعبثا نبحث
بأعيننا عن مصدر الصوت ، فاعتراني الخوف ، خاصة وأنا أسمع رجلا يمشي خلف أسوار
المزرعة العتيقة وهو يتمتم مع نفسه بصوتٍ عالٍ ...
بسرعة
هممنا بالخروج ولم نعد أدراجنا قطّ إلى تلك المزرعة الشبح ....
***
بعد
شهور قليلة قال شريكي باسما :
- جهزي القهوة والشّاي ،سآخذكم إلى مكان ستتفاجؤون
به ..
وانطلقت
السيارة تتماهى عجلاتها بإسفلت الطرقات مقاومة بإصرار طاقة الاحتكاك ..
- - مهلا عزيزي !
هذا درب تلك المزرعة المسكونة !
أرجوك لا نريد الدخول إليها ...
سكتَ وفي عينيه
ابتسامة جميلة ، ثم همس:
- - سنرى الآن ...
ولم أصدق عينيَّ أبدا !!!
سبحان الله !
تحولت تلك المزرعة بأشباحها وحشراتها وصدئ ألعابها إلى جنّة حقيقية ..
إلى حديقة عامة منظَّمة ومرتبة ، فيها ممشى لرياضة المشي ..
أشجار النخيل الهرمة ارتفعت هامتها ، وعناقيد أزهارها ممشَّطة مربوطة بشرائطٍ ، كجدائلِ غجريةٍ صبيّة جميلة ، تهدلُ على سعفها يماماتٌ بنتْ
أعشاشها ، وتغرّد عصافير الدّوري بين ثنايا ضفائرها وتنعقُ طيورُ المَكْبَاي بمناقيرها الصفراء في
أَكَماتِها ...
وارتصفتْ حول سيقان النخل أحواضٌ مزروعةٌ زهورا مختلفة
الألوان ، يانعة كعيون صبايا في عمر الرّبيع ونشوته ...
وهنا أكماتٌ من حناء الأسيِّجَة الخضراء ، فوق بساط من
عشب أخضر غطى معظم المساحات ، وكسى المناطق العارية من جسد محبوبته بحرصٍ وتماهٍ
..
المقاعد المهترئة استُبدلتْ بطاولات ومقاعد خشبية
جديدة فيها بريق ورائحة الخشب البني
الجديد ..
و ساحة الألعاب الرملية ، تعجّ بأراجيح جديدة و زحلوقاتٍ ملونة ، وألعاب جميلة
..
سبحان الله !
بوركت جهود من صمَّم وخطَّط ونفذّ ..
أصبحت جنّة مختلفة
عن حدائق المدينة ، وفيها شيئ مميز ، لا أدري ربما هو التصميم الهادئ وقلة الزحام
والنظافة ، واختباؤها عن الأنظار ...
صارت ملجأ لنا كل نهاية أسبوع .....
كنا نرى رجلا عجوزا في كل مرة نذهب فيها ، يأتي قبل كل
صلاة بقليل ويتفقد المكان وأحيانا يرفع من الأرض عبوة فارغة ويرميها في المكان
المخصص، ويرمي السلام ، ثم يذهب للصلاة في ذلك المسجد الذي يتكئ بظهره على أكتاف
الحديقة ساترا إياها عن الأنظار ...
وشاءت
الصدف أن يكلمه شريكي ذات مرة، فأخبره العجوز أنه من تبرَّع بالمزرعة إلى الحكومة
، وتبرَّع بالأموال لجعل المزرعة حديقة عامة ، وأنه من يدفع للعمال القائمين عليها
...
وأشار
إلى أحد القصور حول الحديقة وقال :
"هذا
قصري وهذي قصور أبنائي ، وعسى الله يجزيني خيرا على صنيعي "
دعونا
للرجل بالبركة والخير ، واستمرينا في سبيلنا نذهب يوميا وشريكي للمشي في ذلك الممشى المرصوف
بحجارة قرميدية ، تنفث الفخامة في المكان ... واستمرَّ روتين الأيام ...
وهاهي
أقدامنا ، في كل صباح، تضرب الحجارة
المرصوفة ، في سباق مع الرشاقة ، ومآقينا تلحظ
:
أحد
العمال يجزُّ العشب ، وذلك يشغِّل رشاشات الماء
، ويتكلم طويلا بجواله ..
الرجل
العجوز يمشي بعكازه متفقدا جنّتهُ ، يلتقط من الأرض العبوات الفارغة ويرميها في
الحاوية ...
هديل
تلك اليمامة تنوح بنفس الرّتم دائما ...
العصافير
تتسابق للاغتسال بماء الرشاشات والنقر من الأرض ...
كل شيء يتكرَّرُ بنفس الرّتم ، بنفس التوقيت ،
فبدتْ الحياة متوقفة ...
وحتى عندما
كانت الحديقة مزرعة مهجورة مسكونة ، كانت تبدو فيها الحياة متوقفة ....
و ننسى
أنَّ الأمر يشبه كوننا على كرة تدور وتسبح
في الفَلك الشاسع فلا نشعر بها ولا
بدورانها وتبدو متوقفة ، إلا أنها في كل
دورة تعدو يوما جديدا في العمر ، وترسم خطّا من خطوط الزمن في أجسادنا ...
وما
زلنا نسمع ذلك الصوت الذي يبدو كطرق فأس في أفنان جافة ، لنكتشف أنه ليس سوى سعف
النخيل المتدلية فوق وخارج أسوار الحديقة ،وكأنها تحاول الهروب ، تضربها الرياح بعمود الكهرباء الحديدي ، فتئنُ
ذلك الأنين المخيف ...
ومهلا
!!!!
مازالت
الحياة تبدو متوقفة .....
****
بقلم : مؤيدة بنصر الله " نادية "