الخميس، 12 نوفمبر 2015

التماهي

 
 
 
التماهي
 
كثير ما راودني التفكير في سر تبعية الشعوب للحكام بغض النظر عن قناعتهم بما يمليه الحاكم عليهم من قوانين جائرة تعسفية و استغلال للسلطة
و الغرابة لا تكمن في زمرة الثائرين الحانقين على هؤلاء الحكام و قوانينهم الوضعية أو في الفئة المقهورة المغلوبة على أمرها لكن الغريب حقا هو سلوك السواد الأعظم من الشعب و الذي يرتضي هذا الطاغية بمحض ارادته بل و يصل به الامر في كثير من الأحيان حد التقديس و من ثم توحيده و ربطه بالقيم و الثوابت الإنسانية فيصبح جزء لا يتجزأ عنها
لتصبح أنت و أنا و هو وهي أمام قضية مع أم ضد، ولا محطات بينهما تسمح لك بالتوقف عندها
إن اتبعت هذا الشيخ فأنت مسلم و إلا فلا،،،، و هنا ينتظرك التكفير والحكم عليك بالزندقة
إن كان قائدنا الهمام بطلك فأنت وطني شريف ،،،وإلا فالعمالة و الارهاب هي تهمتك و لقبك

الامر هنا لا ينطبق على حاكم الدولة أو رجل الدين فقط، بل يتجسد ايضا في العلاقة ما بين رئيس المنظمة و المرؤوسين، المعلم و تلاميذه، الزوج و الزوجة، الوالدين و الابناء,,,,, كل راع و رعيته.
إذا هنا السؤال / هل حقا نحن شعوب لا يحق لها أن تُعطى سلطة، و دائما و ابدا ما نسيء استخدامها..!!؟
كان هذا ما جال و لم يزل بخاطري إلى أن أطلعت مؤخرا على معلومة في مجال علم النفس بررت لي و فسرت بمنتهى الوضوح سر هذه التبعية الغير منطقية بين الاشخاص و من هم ذوي القوة و السلطة
حدث ذلك أثناء بحثي عن أصل مصطلح " التماهي " في اللغة
فكم كنت ارى أن التماهي شيء نفيس، كنت على يقين ان هذا الشعور-التماهي- أقصى درجات الود و التمازج و الالفة إن حدث و توافر بين شخصين, بل أكاد اجزم أن نسيم الوئام يمر فيما بين حروفها..!
كان هذا قبل أن أعلم أن مصطلح التماهي لم يكن موجودا في اللغة العربية و أنه مستحدث من المقابل له في الانجليزية identification-
و قد فسره البعض كسلوك على أنه نوع من التقمص و عرفه علم النفس على أنه: "سَيْرُورَة سيكولوجية في بناء الشخصية، تبدأ من المحاكاة اللاشعورية، وتتلاحق بالتمثيل ثم الاجتياف (التَّقَمُّص) للنموذج".
أضاف علم النفس أن التماهي بالمتسلط يعد أحد اساليب الانسان المقهور في الدفاع عن نفسه و التي يلجئ اليها بشكل لا ارادي و تلقائي حتى يتسنى له العيش بسلام و اضفاء روح من الوئام المحبب على العلاقات



ويُعَرِّفُهُ الدكتور مصطفى حجازي - في كتابه: "سيكولوجية الإنسان المقهور"، الصادر عن معهد الإنماء العربي (ص 127)- بأنه "استلاب الإنسان المقهور الذي يهرب من عالمه كي يذوب في عالم المُتَسَلِّط؛ أملاً في الخلاص
وتأخذ هذه الظاهرة ثلاث صور:
الأولى: التماهي بأحكام المُتَسَلِّط.
الثانية: التماهي بعدوان المُتَسَلِّط.
الثالثة: في آخر أشكال التماهي بالمُتَسَلِّط يصل الاستعلاء أخطر درجاته، لأنه يتم بدون عنف ظاهر، بل من خلال رغبة الإنسان المقهور في الذوبان في عالم المُتَسَلِّط.
وهنا يكون الضحية قد خضع لعملية (غسيل مخ) من خلال حرب نفسية مُنَظَّمَة لتحطيم القيم الاجتماعية والحضارية للفئة المقهورة.
يقول الدكتور مصطفى حجازي في المصدر السابق (ص139، 140): "وأقصى حالات التماهي المُتَسَلِّط تأخذ شكل الاستلاب العقائدي؛ ونقصد بذلك تَمَثُّل واعتناق قِيَم النِّظام، والانضباط والامتثال، وطاعة الرؤساء الكبار، وهي قِيَم تخدم - بما لا شك فيه - مصلحة ذلك المُتَسَلِّط؛ لأنها تُعَزِّز مواقعه وتصون مُكتَسَبَاتَهُ".
التَّمَاهي - إذا -: هو تماثل وتطابق ناتج عن رؤية مصلحية تصل إلى حد تغييب العقل، وتصل في التوصيف الأخلاقي إلى النفاق والكذب مُجْتَمِعَيْنِ.

وهذا المعنى قال عنه ابن خلدون في "مقدمته"(1/196): "أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونِحْلَتِه وسائر أحوالِهِ وعوائِدَهُ؛ والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها،،، فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتَشَبَّهَت به، وذلك هو الاقتداء أو لما تراه - والله أعلم - من أن غَلَبَ الغَالِبِ لها ليس بعصبيةٍ ولا قوة بَأْسٍ، إنما هو بما انْتَحَلَتْهُ من العَوَائِد والمذاهِب".



هنا يظهر سؤال غاية في الأهمية / هل التماهي سلوك إيجابي أم سلبي و ما الفرق بينه و بين الاقتداء..!؟
الاقتداء هو محاكاة للنموذج في المنهج و الفكر و السلوك و هو واحد من اهم أساليب التربية المشهود لها
لكن يكمن الفرق بين التماهي و الاقتداء في قدرة كل منهما على ترك روح الابتكار و البصمة و الهوية الشخصية في الافراد
فالتماهي يصل بالفرد الى مرحلة الشلل العقلي و التبعية العمياء فيقتل روح الابداع ويحجب الرؤية عن الخيارات و البدائل المطروحة و التعامل مع القهر و الظلم على أنهما مسلمات بل هما خير المراد من رب العباد و من ثم الاضمحلال و التخلف عن الركب و الأمم ..!!  

لهذا حثنا الإسلام على اتخاذ القدوة و الاقتداء و لم يأمرنا ابدا بالتماهي لما فيه من تشويه للفطرة وتعجيز عن اتخاذ الصائب من القرارات
فالطبيعة تحتم بقاء كل جنس على حاله، و اللوحة تزداد بهاء بألوانها عندما تتماهى بشرط الا تتلاشى..!!!


نسرين مصطفى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق