قصة - قصيرة - شاطئ- مرسى- عصافير- احتياج-
" مَرسى على الشاطئ الأخير "
تُحيكُ الشمسُ برفق وإتقان أولى
أشعتها الفضية
في الدقائق البِكر من فجر يوم جديد ، وكأن هذا
الشعاع الخافت الذي
بدا كشعاع شمعة صغيرة في
حلكة الليل ،
منبه ساعة رنّان أيقظ كل العصافير
التي بنت
عشرات الأعشاش الصغيرة في مَنْور
منزلها الجديد ، الذي يبدو أن المقاول المسؤول
نسيّ أو تناسى إكساءه ، وتركه حجارة مصطفة
فوق بعضها بفجوات ومفاصل كانت وطنا
لعشرات العصافير ...
ما إن يبزغ أول شعاع حتى تتعالى زقزقة العصافير
كهجوم جحافل جيش جرَّار
..
وكانت تذعر من انطلاقة
الزقزقة الأولى فتجفل
من نومها ، وتحاول سد أذنيها بوسادتها لتستعيد
غيبوبة نومها العنيد ، لكن عبثا ....
مازحتها أمها عندما اشتكت لها :
-
كل هذه
الرومانسية والرقة فيك
وتكرهين صوت العصافير !!!!
لا تدري حقا ربما لأنها تعاني
من الأرق ، و زقزقة العصافير تزيد الطينة بِلَّة ...
غير أنها اعتادت أصوات الباعة المتجولين
والدرجات النارية وضجيج أولاد الجيران ، ولم تعتد
أصوات العصافير
، وعبثا حاولت فك الشيفرة ،
فأحداث ومشاعر كثيرة تمرُّنا في دروب حياتنا ولا
نعرف لها تفسيرا قط ، أو
ربما نحتفظ به في عقلنا
الباطن خائفين أن نفتح صندوق "باندورا "
الإغريقي الأسطوري ، كمحاولتها أيضا أن تفسر
شعورها الغريب عند وجود أمها زائرة في
بيتها ، وعبثا تمنت ألا تتكلف بتعاملها مع أمها
كضيفة غريبة ....
وكانت والدتها تحاول أن تكون
مفيدة فتعرض
المساعدة أو تتصل بها لتوقظها
في كل صباح
على موعد مدرسة الأولاد ، لكنها تجدها
مستيقظة ... ...
رويدا رويدا لم تعد تتصل ...
ورويدا رويدا لم تعد تعرض المساعدة عندما
تزورها ...
ورويدا رويدا لاحظت خبوت الضيّ في عيون
والدتها ، وإنطفاء شعلة حماسها
، فكانت تبدو
مُكبلة بزرد قيود عدم احتياج ابنتها وأولادها لها ...
في ذات جلسة بين الأنا والضمير ،
اكتشفت
معاناة أمها من الفراغ القاتل الذي نما كعشب ضار
في دربها، متغذيا
من تربة عدم الاحتياج لها
ولخدماتها ووجودها ووقت ضائع دائما يمرّ بتثاقلٍ
في كلّ
يوم جديد ...
رفعت سماعة الهاتف :
-
ماما !
هلَّا أتيت لزيارتي اليوم ، فأنا
أحتاجك !...
لبّت الأم النداء في الحال ، والفرحة
تتطاير من
عينيها ، كزقزقة تلك العصافير
عند استشعار
أول شعاع فضي في دقيقة الفجر البكر ،
فابنتها تحتاجها ...
منذ ذلك اليوم والابنة ، تُشغِل والدتها
بأعمال
تلائم عمرها : تقطيع خضار ، مؤونة
شتاء ،
مجالسة صغير ، رنة هاتف تذكرها بموعد ما ...
كم "يأكل الدهر علينا ويشرب " ! ونغوص في
دوامة الوقت
فتجرفنا ، لنجد أنفسنا على شاطئ
أذيال العمر طاعنين في السن ، نلوّح لأحبتنا في
سفينة الحياة المسرعة ، فهم راحلون لأنهم لا
يحتاجوننا بعد الآن ...
وهي قد ألفت زقزقة العصافير حتى لم تعد
تسمعها ، بل صارت
جزء من حياتها يذكرها بالأمن
والسلام وأن الدنيا بخير ...
وزيفت احتياجها لوالدتها حتى لم تعد تره ، بل صار
مرسى لأمها على ذلك
الشاطئ الأخير ...
****
بقلم مؤيدة بنصر الله / نادية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق