الاثنين، 10 أكتوبر 2016

أثر الفراشة

أثر - الفراشة - قصة - قصيرة - نظرية - فوضى - مستقبل -

أثر الفراشة




يقول العلماء إنَّه من الممكن لخفقات جناحيّ فراشة طفيف في الصّين مثلا أن يُحدِثَ عاصفة هائلة مع الزّمن في أبعد مكان عنها كأمريكا أو إفريقيا وهو ما عُرف لاحقا  ب "نظرية الفوضى" ...
وقد يكون لأفعالنا وكلماتنا ، أثر كأثر الفراشة مهما بدا صغيرا إلا أنّه من الممكن أن يُحدِثَ تشويشا يؤذي أناسا حولنا أو يؤثِّر فيهم بشكل أو بآخر ، ونحن ما فكرنا قطّ  بالنتيجة  ....

كم تتثنَّى وتتعرَّج دروب حياتنا كتلافيف الدماغ ! فنشعر بالضعف والانكسار تارة ، وبالقوة والسّطوة تارة ، وقد نعيش متصالحين مع أنفسنا نَحثُّ الخُطى ، وقد نغلِّف ضمائرنا بطبقة كيتينيَّة صَلْدة كالحشرات نزحف وننقضُّ عند أوهى الفرص معتقدين أننا أقوياء ، إلا أنّنا في لحظة قد نُسْحَق تحت أيّة وطأة قدم ...

 كان شابّا يضجُّ بالحيويّة والطّاقة وينبض بقوة الحياة ، ويرسم مستقبله بريشة معطيات حاضره وماضيه ، وأحيانا بريشة الأمل والأحلام الوردية ، وقرَّر مع دخوله الجامعة أن ينسى متطلبات جسده ويلتفت لفكره ودراسته ومستقبله ، فكان الأوَّل على دفعته ، وعُيِّنَ معيدا في الجامعة  ...
 بدا لوهلة أنَّ الطريق مُعبَّدٌ مبسوط ممدود نحو الدكتوارة والمستقبل ، إلا أنَّ الدَّرب كان محفوفا بأشواكٍ وحفر وتنازلاتٍ لم يكن ضميره ليسمح له بتقديمها ...
إما أنْ تكون مثلهم أو لا تكون ...
عليك أن تُجامل وتلعق الأحذية وتمدح المشرف المسؤول حتى توصله لمرتبة الإله ، وتنْخَرِط في ارتكاب المحرَّمات  ولا تناقش أحدا أو تخالفه الرّأي ، ما عليك إلا أن تكون العبد المطيع ...
 وهو قد ظنَّ أنّ الدفاع عن رسالة الدكتوراة يعني نقاشا وأسئلة وأخذا وردًّا وملاحظات مفيدة وتبادل للخبرات والتجارب ، إلا أنها في مجتمعاتنا معناها :
 لك الخيار أن تبقي فمك مغلقا إلا للتزّلف أو يكون طريقك عثرات وضياعا للوقت والطاقة والمال ...

استقال بعد صراعات كثيرة وقرَّر جمع المال بنفسه وتحقيق حلمه بيديه العاريتين الكادحتين ....
لكن كان لابدَّ دائما من تعزيز وتأليه الأصنام المسؤولة ، فتعلَّم بعض المراوغة أو لنقل المرونة ،  فقط ليستطيع القفز فوق الحفر و المطبات وتفادي وخزات الأشواك ...

والآن هاهو  يرى حلمه أمام عينيه مؤطَّرا في برواز ، ويتسائل إن كان استحقَّ أن يستنزف الكثير من عمره وشخصيته وروحه للحصول عليه ،  ثم لمع إصراره مرَّة أخرى كبارق أنار الظلمة لوهلةٍ فأضاء فكرةَ ألَّا يتوقف هنا أمام ذلك الإطار ، وقرَّر أن يفيد الناس بعلمه ويؤلف الكتب والبحوث ...

كتاب جديد يؤطر اسمه ، وهاهو رفيقه في العمل يصفِّق له ويهلِّل ، ويُري الكتاب للجميع  وحتى للمدير ، ويبدو سعيدا به أكثر من صاحبه ، وفرحا بعبارات الإهداء التي خطَّها له باسمه ....

وفي نهاية العام هذا الرفيق قرَّر الرحيل بعيدا لظروف عمله ، أوصله للمطار وبدا على عُجالةِ هاربٍ ، حتّى إنَّه لم يودّعه الوداع اللائق وكأنّه أحد الغرباء وأعطاه مفتاح مكتبه وطلب منه أن يسلِّمه وما تبقى من عهدته في المكتب للإدارة ...

 صَرّ الباب صريرا كئيبا  وهو يدخل المكتب المهجور ، غارقا في لُجَّة الظّلمة يرشح ببرودة الوحدة  ... جمع بعض الأوراق التي أوصاه صاحبه بجمعها ، وجال  ببصره هنا وهناك لعلّه نسيَّ شيئا ليلحظ بذهول كتابه الذي أهداه لصاحبه مرميَّا فوق مجموعة كتب وقد اعتلته طبقة غبار توشي بالإهمال والنسيان عن سابق إصرار وتصميم أو عفوا لا يدري ، إلا أنه مدّ يده المرتجفة ومسح الغبار وقلَّبَ الصفحات التي بدت عذراء لم تتصفحها أنامل أحد ولا نالتها عيون نهمة للقراءة والمعرفة ، و أومضت بين الصفحات صورة الرفيق فرحا بالكتاب مُصفِّقا مُهلِّلا كزيفِ سرابٍ في قيعةِ صحراء قاحلة ...
    سادرا بأسى وحسرة حمل كتابه المُستَرَدُ بين راحتيه ، وبحزن طوى صفحة صاحب قديم ترك مكتبه وكتابا مُهدَى مهجورا - ولم يكن الأوّل - وانقطعت أخباره تماما وكأنّه ما كان يوما هنا ، لولا تلك الندبة التي تركها على وتين قلبه ، مُحدِثا أثرا كأثر الفراشة  ...
  
*****

بقلم : نادية / مؤيدة بنصر الله



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق