يمامة وغراب أسود
أسدل
الليل غمار سواده الحالك وساد في المدينة صخب
المجون والهوى ، وتعالت ضحكات السهر والسمر ..
المجون والهوى ، وتعالت ضحكات السهر والسمر ..
لا يهم إن كان الجو عاصفا ، ماطرا ، أو ساكن ، ففي
المدينة ألف سبب وسبب لجعل الليل ملهىً
للعواطف والنفوس
...
وفي
عيونه كان ألف تساؤل عن ماهية الليل في ضجيج
المدينة ، وماهية الهوى في سكانها ..
من قرية
صغيرة جاء يبحث عن نفس ضائعة ، عن أمل بحياة
أفضل ، عن غامض مجهول يسدّ أفق دروبه
، عن شهادة
جامعية بها يبني مستقبله ....
في جامعة
المدينة الكبيرة ، كان الوضع أشبه بجنين كان في
بطن أمه لا يحيط به إلا المشيمة والسائل
الأمينوسي ، ولا
يسمع إلا نبض قلب أمه
وصوتها ، ثم وفجأة وجد نفسه
صارخا شاهقا أول نَفَسٍ له من هواء الدنيا ، وسَمْعَهُ
يضج
بأصوات الممرضات والأطباء ، وصراخ المواليد ، وهدير
الآلات ...
وكطفل
يفتح عيونه لأول مرة ، رأى العمارات الشاهقة ،
وبنات الجامعة ما بين حجاب وسفور ،
وشبابها ما بين خبير
ومبتدئ ، ماكر وطيب ،
ذكي وساذج ، بملامح رغم اختلافها
إلا أنها في عينيه تشابهت كثيرا ..
كانت
غرفته تطلُّ على مجموعة من أشجار الكينا الباسقة التي
امتلأت حدائق المدينة
الجامعية بها ، في تمازج ما بين
العمران والغابة
، يبرِّر لابن آدم هَتْكَ عذرية الفطرة
والطبيعة ...
لكنَّ
هذا أشعره بالراحة ، خاصة كلَّما تناهى لسمعه تمازج
غريب بين أصوات هديل اليمامات
التي اتخذت عشها على
أغصان الكينا ، مع نعيق الغربان التي استوطنتها أيضا ..
وكطفل
صغير بدأ يعتاد الحياة في المدينة ، مع علمه أنَّها
مجرَّد محطة في درب مستقبله
...
بل بدأ
يعشق رائحة قهوته الممتزجة مع أبخرتها ، وهو يقلب
صفحات كتبه الثخينة ، مصغيا
لسمفونية التمازج بين الغربان
واليمامات ، والريح التي تعانق أغصان الكينا ، فتَحفُّ
حفيفا
غامضا وجميلا يبعث في قلبه النشوة وفي ذاكرته عبق قريته
وبيته ، وأشجار
الزيتون العتيقة تمتدُّ على مرمى البصر كلما
صعد سطوح بيته ، وتُسْمِعُه أنغام
سنابل القمح التي توشح
حقول القرية فتختال بثياب من سندس أخضر ..
ثم يرسم
دوائر وخطوط على دفتره وإشارات استفهام ،
فالحنين أضناه ولا يكاد يصبر حتى تأتي
الإجازة ليسافر
لقريته ، ويطوي أجنحة الحنين المسافرة ، والشوق العارم
لبساطة العيش هناك ..
وها قد
أزِفتْ ساعة السفر واللقاء ، والحافلة طوت المسافات
في سويعات ، ليجد نفسه يشمُّ
رائحة خبز أمه ، وقهوة أبيه ،
ويتلمَّسُ خطوط الزمن في وجهيهما ...
وصعد على
سطوح بيته ، يريد أن يُشبع الحنين في ربيع
عينيه ، ويشتم رائحة كروم الزيتون
والتين ، ليفاجئ بأرض
مقطوعة الشجرات محفورة بحفر كبيرة كأساسات لمبنى
سيُنشَئُ
فوقها ..
وبكلماتٍ
مخنوقة يسأل أمه التي أحضرت له فنجان قهوته :
_ ما هذا
يا أماه !!!!!
_ إنهم
الجيران يا عزيزي ، قرَّروا أن يعمِّروا هنا بيتا لهم ،
وصالة للأفراح ، الله
يفرحني بك قريبا ..
" قالت
وهي تبتسم وخطوط الزمن تتجعَّد حول وجنتيها "
...
ومرَّتْ
سنوات دراسته ، وفي كل إجازة يأتي فيها ، كانت
مساحات الكروم والحقول حول بيته
تتقلَّص ليغزوها العمران
بسرعة كاسحة وكأنها في سباق مع الزمن ، حتى لم تعد
القرية
قرية بل كادت أن تصبح مدينة صغيرة ..
وفي بيته
الجديد ، فيما كان يُدعى قريةً ، كان يستيقظ على
ضجيج السيارات وأصوات الباعة
المتجولين ، وصراخ أولاد
الجيران ، حتى أنهكته أصوات التقدم والحضارة ، فباع بيته
،
واشترى واحدا جديدا على أطراف البلدة ، محاطا بما تبقى
من أشجار الزيتون والتين
والحور والسرو الشاهقة ..
محاولا
الهروب من العمران الذي يزحف كأفعى تتلوّى وتبتلع
الاخضرار ..
على
الأقل وجد مأوىً فيه يسمع أصوات العصافير مع حفيف
أوراق الشجر ، وهو يحتسي قهوته
السوداء التي مازالت
محافظة على نكهتها ، فهل يغيّرها العمران والحضارة التي
ينشدها الإنسان ؟؟!!
ربما فكم
غيرت هذه الحضارة والمدنية والتقدم من نكهة
وأصالة أشياء كثيرة !!
لم تجلب على الإنسان سوى أمراض غريبة تصيب
الشباب
والشُّيَّب ..
****
بقلم
مؤيدة بنصر الله / نادية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق