الأحد، 18 أغسطس 2024

أزهار الظل

 ظل-زهرة-موت-حياة-مطر-حديقة-أشباح-أقران-نوم-

أزهار الظل  



أزهار الظل  

أغلق الستارة جيدا بحيث لم يسمح لأي ضوء أن يتسرب، وأطفأ الأضواء في غرفته استعدادا للنوم، راجيا أن يغوص في سريره ويباغته النوم بضربة قوية حدّ الإغماء فلا يشعر بشيء حتى الصباح..

أرجع رأسه على الوسادة وأغمض عينيه علّه يرى الظلام فقط، منتظرا أن يغوص في قاع النوم دون وعي، ولكن صوت المطر أرغمه على فتح عينيه والاصغاء لضجيج قطراته المتراشقة   على رصيف وإسفلت الشارع، وتسلّلت ظلال الأعمدة والأشجار والأبنية من خلف ستارة النافذة المُحكَمة الإغلاق، وتسربت منها متشابهة لا ملامح لها مثل بيادق الشطرنج، ثم امتدت وانقبضت  فتكورت بقعةً واحدة على الجدار قريبا من السقف ...

بدت البقعة حفرةَ زمنٍ سحيقة تقبع مخاوفنا فيها كوابيسا تلاحقنا، فهزّ رأسه ليطرد أفكاره وظلالها، جلس ثم وقف، تأمّل طويلا ثم اقترب من الجدار وانعكس ظله فوق البقعة، توقف وأمال رأسه فانحنى معه الظل بلا أبعاد بلا زوايا بلا عمق...

تساءل: (أَظِلالنا أشباح؟ أم أقران؟!)

رجع خطوات للوراء فابتعد ظله في الجدار، عاد ليستلقي وعيناه مُسمّرتان في بقعة الظلال التي بدأت تتوّسع وتتشتّت إلى خيوط وأشكال مختلفة تتناثر على الجدران والسقف كلما مرت سيارة في الشارع، في الواقع بدت مثل أشباح تخترق الجدار القابع أمامه بكل سلاسة ثم تتجمد ناظرة إليه...

سرى البرد في أطرافه وارتعش كأنه يتجمد، ولا يدري لمَ تراءت لمخيلته من بين الظلال تلك صورةَ أمه في كفنها الأبيض: فمها وفتحات أنفها محشوة بالقطن ووجهها مقطب الجبين مصفر مثل زهرة "القُرّاص الميت"، تزهر في الظلّ، هناك في الحفرة التي تحتضنها حتى يوم الحشر، ثم تنهض ظلالا مع البشر تمتد وتمتد وهي تنتظر مصيرها...

 تهافتت صورة والده الذي تخَضَّبت شفتيه بالدماء المتدفقة من أحشائه ساعة موته، كزهرة "سوسن جرماني أسود"، رافع الرأس خاضع النظرات، في حفرته تلك يزهر في الظل وسينهض يوما ويمتدّ و يمتدّ مع ظلال الحشر...

وهنا تمايل أمامه ظلُّها، ما زال ملتهبا يشهق الحبّ ويزفر الرّغبة ثم يذوي في حفرته زهرةَ "نرجس برّي "تزهر في الظل، وستنهض يوما من تابوتها لتمتد وتمتد ظلا يتهادى لمصيره بين الحشود...

تسابقت الظلال أمام مخيلته تبتلع على التوالي بدون رحمة صور كلّ من مرّ في حياته مثل أشباح سوداء عملاقة خطت خطوة واحدة سريعة قوية، فكانت دوسة أوّل قدم في المهد والثانية واسعة ممتدة حتى اللحد، وما بين الاثنتين يغشى حلمٌ غامض، لو خرج الأسوأ فينا لكان كابوسا حالك السواد وإلا فإنه ومضات "ديجا فو" تتراءى سريعة كنسيان ينبض ثم يموت في سكون، كحياة أخرى عشناها ثم دفنها الدماغ في الخلايا الرمادية كتابا مُشّفر بشيفرات الظلال...

ظلالٌ تصارع النسيان في غابة الأشباح، حيث نباتات وأزهار الظل تنمو ملتصقة بالتراب تحت جذوع أشجار الظلام الباسقة، ترشف الندى كلّ صباح وتمتد عريشا تُعشّش فيه طفيليات وحشرات وطيور مفروطةٌ ريشاتُ أجنحتها، توالدت أجيالا لا تعرف الطيران وتخبئ بيضها بين الظلال، وتخاف من النور لأنه يعمي بصرها...

 شعر ببرد وألم شديد في أطرافه فغطاها بدثار آخر وبدأ يفركها ببعضها علّه يشعر بالدفء، وأرجع رأسه وهو يئن ليغوص في الوسادة، وكل ما أراده أن ينام...

تسربت من أطراف جفنيه قطرات مالحة دافئة جعلت وجنتيه دافئتين ولكن أطرافه ظلت باردة، وهمس: أريد أن أنام...

أمال رأسه قليلا تجاه الجدار وخُيّل إليه أنه يرى ظل دموعه الحارقة التي لم تستطع أن تدفئ أطرافه...

 أراد أن يغلق جفنيه وينام لكن عينيه ظلت محملقة في الظل هناك تتسرب منها قطرات حارة جدا ما زالت غير قادرة على تدفئة أطرافه...

-أريد أن أنام ...

بردت القطرات وتجمدت على وجنتيه وعيونه ظلت محملقة في الظل على الجدار هناك، مفتوحة جاحظة لم يباغتها النوم بضربة وإنما باغتتها الظلال بنفثات باردة باردة جدا حتى تجمدت الحياة في عروقه وانضمت روحه الى أقرانها على الجدار الذي بدا حديقةً من أزهار الظل..

ولم ينم ....

تُرى أيّ زهرة ظلّ سيكون؟! 

 

 ****

نادية محمود العلي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق