السبت، 3 أغسطس 2024

قراءة في رواية العطر

قراءة في رواية العطر



قراءة في رواية العطر


بوسعهم "أن يغمضوا عيونهم أمام ما هو عظيم، أو مروّع أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول، ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق، لأنه شقيق الشهيق. فهو يدخل معه إلى ذواتهم، دون أن يستطيعوا صدّه، إن رغبوا بالبقاء على قيد الحياة، كما أنه يدخل إلى أعماقهم، إلى القلب مباشرة، حيث يتم الفصل الحاسم بين الميل إليه أو احتقاره، بين القرف منه أو الرغبة فيه، بين حبه أو كرهه".

لطالما تساءلت عن الحكمة وراء تحريم تعطر المرأة عند خروجها ، وعن مدى تأثير الروائح في مشاعرنا وتحكمها في سلوكياتنا، حتى وقعت بين يداي مؤخرا رواية العطر التي نحن بصدد الحديث عنها الان، لتعود وتلح على من جديد نفس التساؤلات.

هل هناك رائحة ما بوسعها ان تجعل البشر سعداء واخرى تجعل منهم تعساء، هل يمكن ان ينشر عطر ما روح السلام بين البشر مثلا بينما اخر تندلع على إثره حروب شعواء، هل يؤلف العطر بين القلوب وغيره ينفرها، هل تنزل السكينة او يحل الخوف جراء اثير في الجو....!؟

الى اي حد يمكن ان تتلاعب بنا روائح الاشياء والاشخاص..!؟

لست أدري

 لكن اعرف جيدا ان ثمة رائحة بمقدورها ان تحملني الى زمان ومكان قد مضى..!


رواية العطر هي رواية تعج بالروائح المتباينة و سأحاول ان اتناول الرواية بايجاز شمولي او اسهاب مقتضب لست ادري حقيقة، بل وربما ايضا اعود لها ثم منها مرارا وتكرارا ، لانها في نظري بئر عميقة لا يمل ابدا الاغتراف منها بيد انها لا تنضب.


روايتنا اليوم من هذا النوع الذي ما ان اجتمعت به لا تترك لك المجال من المغادرة دون الانتهاء منها، بل وبعد الانتهاء من قراءتها، تظل تسكن تفكيرك وتراودك تعبث هنا وهناك ثم تبعث رسائل ورؤى .

الرواية مصنفة تحت بند أدب التراجم وهي للكاتب الالماني باتريك زوسكيند وترجمها للعربية الرائع نبيل الحفار


تحمل النسخة المترجمة من الروية الكثير والكثير من البهاء والسخاء في عرض الافكار وتجسيد المواقف وتوصيف المشاعر بشكل ادبي غاية في الروعة والاتقان مما يقودك وبلا شك لمتعة جمة.

الانتقال بين جنبات الرواية سواء صفحاتها واحداثها هو انتقال رشيق وشيق للغاية لا ينتابك خلاله غير مشاعر الحماس والاستمتاع.

الرواية تلقي الضوء على حقبة زمنية عاشتها عاصمة الموضة والفنون والجمال، فينتج عن ذلك ان يعيد القارئ تقيمه وحكمه على بعض الذي ظنناه دائما مسلمات وبديهيات وبالتالي التخلص من عقدة الخواجة والتأكد من انه ليس كل ما يلمع ذهبا بل ربما يكون محض سراب..!

على هامش الرواية سمعت نميمة تهمس من بعضهن مفادها ان ارقى العطور الفرنسية واكثرها ثباتا كانت بالكاد محاولة لدحض وطمس الرائحة القذرة لباريس..!

هذا ما سمعت والعهدة على الراوي ... لا بأس لا يعنيني البتة، زجاجة ديور على سبيل المثال لا الحصر تعد من اعظم كنوزي ومقتنياتي الشخصية..!!!

كان لي الكثير من الوقفات شعرت خلالها بمشاعر متضاربة على غرار الشفقة و التشفي، الضحك والبكاء، الاشتهاء والاشمئزاز، وما الى ذاك من التضاد....

لا انتوي فض ستر الرواية ولكن سوف اعرض رؤيتي الخاصة لها مع توصية بقرائتها لانها تجربة ثرية وبجدارة تستحق الاطلاع.


الرواية تستعرض اوضاع أولئك الذين لا يؤمنون بسوى الملموس والمحسوس من الأمور ودونما ذلك لا تترجمه عقولهم ولا تراه عيونهم ولا يستشعروه بالمرة .

هم ربما يكونون غير مؤذيين بطبيعتهم وان خلفوا من خلفهم كوارث دون وعي او رغبة منهم.

هم منشغلون فقط بالسعي المجد الدؤوب لتلبية حاجات حواسهم المحسوسة الملموسة وفيما عدى ذلك لا يقرون ولو اجتمع سائر الخلق على ثبوت الشيء.


المشاعر بحلوها ومرها، الروحانيات بكل ما تشمل من عقائد ويقين وطقوس، الصفات الممدوح منها او المذموم لا يستشعروه بالمرة.

هم مجردون على حد سواء من لوم الذات او الفخر بها اذ انهم فارغين مجوفين من الذات، هم بلا ذات ان صح التعبير، لا يحبون بيد انهم لا يكرهون ايضا، هم فقط يحتاجون ويسيرون على درب واضح جلي يسكن في نهايته قضاء حاجتهم ولا يعنيهم بالمرة مدى استقامة او يسر الدرب ، جل ما يعنيهم هو الغاية منه.

ماذا بعد...!

ماذا بعد ان ينهلون ثم ينهلون المزيد ثم المزيد من كل ما هو محسوس وملموس..!؟

هل تشبع الاذن، العين ،الانف ، الاطراف هل تكتفي من زخم اللمس يا ترى ، هل تمتلئ البطون حد الاكتفاء ، هل يوما ما ستصل الفروج الى ذروة ذرو المتعة فتكف وتعف ...!؟

هل وهل ..... ثم هل وهل

هل من روح تشبع ، هل من ذات تقنع ، هل من نفس تضع حدا لغول المحسوس والملموس الجشع الشره الذي لا ولن يشبع ابدا...!


الله وحده الذي وسع كل شيء علما ،الخالق البارئ المصور ، الذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور

هو فقط من يضع عندها حدا لنزيف الرغبة و الاشتهاء بقوته وجبروته

الآن سواء عن قصد أو بدون ، قد امتلك بطل الرواية القدرة على التحكم بكل شيء،  وبلغ من القوة والسيطرة اكبر مدى لكن للاسف هو لا يملك ذات

ترى ماذا يفيد ان امتلك الانسان الكون وهو لا يملك ذات


نخلص إلى أنه يكمن جوهر الانسانية في درء هوى النفس ومجاهدة وتقويم ميلها ،إذ تكتسب الذات قيمتها ويتجسد وجودها بل وتسمو ويتشكل كيانها بناء على مدى مقاومة الرغبات والغرائز والاحتياجات وتأطيرها وتقنينها في القنوات التي تقرها الشرائع والاخلاق.

وعندما تنكشف تلك القيم جلية مع تتابع الاحداث وتصاعدها، و هنا بالتحديد في مشهد مهيب يدرك بطلنا الوجه القبيح للشهوانية القميئة والذي لم يكن في حسبانه على مدى احداث الرواية لكنه اصطدم به رغم كونه ردة فعل طبيعية لسيطرة الحواس على البشر .

فنصل الى نهاية رحلتنا عندما يميع معنى الحياة في عيون بطل الرواية فتصبح الحياة والموت سيان في وجدانه ، بل يحدث حتى ان تستحيل الحياة وتتحول لعبء ينشد منه الخلاص بالموت ، او هذا ما قد كان عندما تلاشى البطل في نفس مكان نشأته الاولى وبطريقة لا تقل عنها ايضا غرابة ووحشية، ليسدل الستار وكلنا يقين ان حياة هوى النفس وضيعة رتيبة جوفاء من اي معنى او قيمة بينما ترقى الذات بحروبها وانتصارتها وان كانت هي الخصم والحكم ..!!!

****


نسرين مصطفى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق