قصة - قصيرة - ذات - ربيع - مجنون - حرية- اختيار -
في ذات ربيع مجنون
أن تختار
أو لا تختار ، ذلك هو الجواب ...
ليست
حكمة شكسبيريّة ، فاختياراتنا وإن بدت مُسيَّرة إلا أنها بإرادتنا وهي التي تصنعنا
كما نحن بالأمس ...الآن ... وغدا ...
كشمسٍ مُضيئة
مُبهرة وقمر برتقالي يشعُّ بهالة منيرة في ليلة المنتصف ، كانتا صبيتين غرَّتين في
أول سنة جامعية ، " ضياء" الشمس بطولها الفارع وبياض بشرتها الصافية ، تتدلى فوق
ناصيتها خصلات سوداء تزيد بياضها إشعاعا كما سواد عينيها يبرق ليزيد من الشعور
بوهجها ، وتختال في مشيتها بطولها الفارع فتلتَفِتُ إليها العيون المُعجبة كزهور دوّار الشمس تدور معها منجذبة ، وهي تعرف
فتختال أكثر وتبتسم بثقة الشمس ....
"سنا
" القمر ، بوجهها المُدوَّر المضيء
ووجنتيها الحمراوين وعينيها الخضراوين
كسنبلتين في حقل نَضِر ، ترفل وتتهادى في خجل بوشاح فوق رأسها وكأنها تبحث عن مكان للتواري ...
صديقتان
هما جمعتهما الدراسة ، ومع أنهما تبدوان مختلفتين إلا أن شيئا ما ربطهما ، ربما
لأن" ضياء" لم يكن لديها صديقات أو حتى رفيقات فالغيرة منها ومن مجرد
المشي بجانبها تبعدهن عنها ، وهي تجذب الأنظار
كشمس مشرقة تفرض نورها في كل مكان ، ولكنها كالشمس أيضا غير مريحة عندما تكون
ساطعة فنحاول الاستظلال وتجنبها قدر المستطاع ...
و "
سنا " لم يكن يهمها أن تكون ظاهرة أو أن ينظر إليها
الناس بانبهار ، كانت فعلا كضوء القمر تتسلل بنور خافت إلى القلوب وتفرض رويدا
رويدا سحرها الجذّاب بكلّ ثقة ، وكما سنا القمر يفرض هالة راحة وهدوء وفرح كانت
تهفو لها القلوب وترتاح معها ، وكالقمر لم يكن يهمها أن تغطي الشمس ظهورها عندما
تسطع ،فهي تعرف ما حباها الخالق به من نعم عديدة ...
وفي يوم
من أيام نيسان طرقت " ضياء " باب
صديقتها تطلب منها الخروج للتمشي فهي تشعر بالملل كعادتها ، وقد استبدلت النظارة
بعدسات تزيد بريق عينيها جمالا ، ورسمت شفتيها بالأحمر فزاد بياض بشرتها سطوعا ،
بينما لَفَّتْ " سنا " وشاحها فوق رأسها وخرجت معها من دون تزييف أو تجميل
...
تتهاديان
بمشيتهما فوق حجارة الرصيف المبلولة ، تحاولان ألا تدوسا زهور الياسمين الأصفر
المتساقطة من شجيراتها التي اشرأبت أغصانُها متكاتفة ومتدلية فوق أسوار البيوت
المترامية ناثرة زهورها عديمة الرائحة فائقة الجمال وكأنها قرابين أمنا الطبيعة تذروها زفرات الريح على إسفلت الشوارع فتكسوها
باللون الأصفر ، ورائحة الربيع تعجُّ في الأثير ، كما الطلاب والطالبات يعجُّون
فوق الأرصفة والطرقات ، ففي فصل الربيع قوة هائلة مجنونة
تجرُّ الناس للخروج وتُشعرهم بالضَّجر من السّكون ، وكانت النظرات تتوجه مباشرة إلى " ضياء
" التي كانت تسترق النظر إلى " سنا " ثم سألتها فجأة :
-
سنا أنت
غريبة جدا !! غير معقولة أبدا !! ألا تغارين ؟؟
ابتسمت " سنا " بهدوء وشَعَّتْ
عيناها وهي ترد :
-
ولماذا
أغار وأنا لا يهمني أن أكون محط الأنظار ! كما أني أعرف نفسي وأعرف ما حباني
الخالق به وسأكون دائما قانعة كما أنا ...
-
ولكن !
من الممتع أن ينظر الناس إليك وكأنك ملكة إناث الأرض بل وكأنه لا توجد أنثى أجمل
منك ، وأن تشعري بالاستحواذ والكل لا يرى إلَّاكِ ، حتى من بجانبه أنثى أخرى تمطركِ
سهام عينيه بنظرات الإعجاب وسهام عينيها بغيرة وأنانية ، إنه حقا شعور يجب أن
تجربيه حتى تعرفي يا سنا ما يفوتك ...
-
حسنا ! سبحان
الله ! جربته ولم أشعر إلا بالقرف من الرجل الذي ينظر والشفقة على الفتاة بجانبه ،
ودعوت الله ليلا ونهارا ،سرا وجهارا ، ألا أوضع في مكان الفتاة ، وأن يرزقني الله
بزوج يخاف الله ويخاف أن يخون ببصره
ومشاعره قبل جسده ....
الحياة
يا ضياء ليست مجرد متعة زائلة ، ولا هوى ، إنها مزيج من صراع بين الهوى و
القيم ، بين الصعود والهبوط ، بين المتعة والألم ، بين الجسد والروح ، وبقدر ما
تتقدمين في ذلك الصراع باختياراتك الصحيحة فأنت الرابحة ...
صمتت "ضياء" والشرود يُثقل
خطواتها ، لكن من يعبئ لنصيحة صديقة غرَّة ، فالحياة لا تنتظر أحداً ...
مرَّت السنوات الخمس بسرعة تَجدُّ الخطى
نحو المستقبل ، ومرَّت عدة شهور للعودة لأخذ الشهادة ، فيه التقت الفتاتان ، كانت
سنا تتأبط ذراع عريسها ، و" ضياء " تختال في مشيتها عندما استوقفتهما مُسلِّمة
،وكانت متفاجئة أن عريس سنا لم يرفع بصره أبدا لينظر إليها ، ولم يكلف نفسه العناء
حتى ليوجه كلمة ، وإنما ابتعد ببطء لتُنهيا حديثهما ...
ثم التفتت إليه مودعة وحاولت استجراره ولم
تفلح إلا بنظرة عادية وكأنه لا يراها ...
- هل استجاب الله دعاء سنا ورزقها ذلك
الزوج الذي تتمنى !!!
همست في نفسها وهي فريسة مخالب مشاعر
مختلطة من غيظ وغيرة وتوجّس واستغراب ...
مرَّت الأيام والتقتا صدفة في عصر ربيع
مجنون جرَّ الناس للخروج ، وكانت "ضياء" قد تزوجت بطبيب مشهور ، ألزمها
على وضع الحجاب فبدت كشمس خبت سطوعها بعد
أن حجبتها غيوم رمادية ، حتى أن "سنا " لم تعرفها لولا أن
توجهت لها وهي تنادي اسمها ...
ولحظت "سنا" نظرات إعجاب من زوج
"ضياء" تجاهلتها بحزن ، ولكنها لم تتجاهل نظرات الأسى والغيرة في عيون
صديقتها ...
ومضت كلٌّ في طريق ...
"ضياء" تمزقها مشاعر الغبطة
والحسد وهي تلاحظ أن زوج سنا لم يلتفت لها بنظرة
، ومشاعر الغضب والحقد وهي تلحظ زوجها يرمق سنا بتلك النظرات ، وتمنت أن
تنشقَّ الأرض فعلا وتبتلعها حجارة الرصيف وأن تدفن رأسها في الرملى - كالنعامة –
بل وتغوص فيها وتغرق ...
ومضت "سنا" تتصارعها مشاعر
الشفقة على " ضياء "، والفخر
بزوجها ، وبالامتنان لله تعالى الذي أجاب دعوتها ، وتمنَّت أن تطير لوهلة كفراشة
رهيفة حرّة باختياراتها ...
الغريب أن الصديقتين لم تطلبا أرقاما ولا عناوين
، تاركتين اللقاء لصدفة ربيعٍ مجنون ...
******
بقلم : مؤيدة بنصر الله / نادية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق