صافرة الرحيل
دار المشهد بأرض القياصرة والكرملين
إبان الثورة البلشفية,,, و ربما أيضا بغير زمان و مكان يدور..!!!
بقدومه أيلول... تخفت زقزقة
البلابل، ليحل محلها نوه البوم و حفيف الرياح ،وسط أجواء ضبابية ؛اكتست ضاحية "غاتتشينا" بحلتها البيضاء، هكذا هي في مثل
ذلك من كل عام، توارت أحراش الصنوبر؛ و قراميد المنازل تحت أكوام الثلوج، و عبثا
تقفز السناجب بأذيالها الكثة هنا وهناك؛ تفتش عن كسرة جوز لم يلفحها الجليد بعد،
تحول نهر "نيفا" لساحة يمرح حولها الأطفال؛ كل مع رجل ثلجه، و هربت الأسماك إلى
القاع تنشد بعض دفء، و على الرغم من موجة البياض التي اجتاحت كل شيء حتى الليالي
آنذاك، سكن الخوف و الشجن جوفيهما؛ تسرب الصقيع تحت الجلد و حتى سويداء القلب، فبدا عالقان بين قدرية البقاء و
رغبة في الفناء.
سيطرت عليهما أمارات الوجوم
حتى زهدا في النطق، ساد الصمت المطبق باستثناء تنهيدة و زفير حمل معه ذرات من بخار
الماء ...ينهجان.. تغوص قدميهما ليتخلف عنهما رتل فرج رباعية مصطفة فوق البساط الثلجي،
كم كانت شاقة الخطوات و طويلة؛ حتى بلغا محطة القطار التي كانت للعابرين حينها
بمثابة خاتمة حكاية و مستهل أخرى.
كانت صافرة القطار كعادتها
جهورية مهيبة، تشق عباب الفضاء ، تخبر القاصي و الداني أنه قد حان الرحيل الحتمي
إلى المجهول، و رغم الزحام و في الخضم ،عينيه لم تر سوى عينيها التي كانت طاقة
نور، تسلب إليها النظر، أو كشراعة على روحها الشفيفة المخملية البريئة.
طويل هو كشجرة سرو، كما زرقة
البحر كانت عيناه، خصلات شعره الأث من ذهب براق، يقف بين مطرقة قصر اليد و سندان
عشقه عاجزا عن قطع الوعود، فهو لا يعلم أي مصير ينتظره هناك,,,, فيما وراء أميال
ينتوي مع ذاك القطار قطعها، لم يوقن عندما أقسم يمين الولاء العسكري و ارتدى بزته،
أن عليه دس قلبه في مأمن حصيف؛ بمنأى عن مهب العشق و الهوى.
قالوا فيما مضى هناك مشاعر لا
يتداولها أكثر من قلبين، وهناك من قال اذا تشبع القلب بمن هوى اغدق و فاض بما حوى،
و هذا ما قد حدث عندما وشت العيون بشغفها للكون بأكمله.
عندما تفتق للرمادي جمال خفي
كامن....لطالما كان بظلاله في عداد الألوان
الباهتة، التي تفتقر إلى شتى ملامح البهجة، كان ذلك قبل أن ترتديه تلك
الندية الغضة، عندها أعلن و بعفوية شديدة
أنه كطيف بذاته، يمكن أن يكون بشرى فرح، تُزَف للكون قبيل بزوغ النور و ليس لون للغروب
فحسب.
الرمادي... تلون به ثوب من
الحرير الهندي مطعم بقماش التخريمة اليدوي المحبوك، الذي ظنوا أنه سيق خصيصا من
البندقية ليزيد الصغيرة بهاء، و ما علموا أنه المحظوظ، فهو من ازدان، ازداد نضارة عندما ارتدته
الحسناء.
ياقته المطرزة تلتف حول عنقها
البض من نحرها و حتى حدود الذقن المستدق، كاطار للوحة بديعة الصنع و الإتقان،
أكمامه السابغة حتى المعصم تبدي من الحسن أكثر مما تخفي، مخصر ليبرز فتنة و جمال غصن كما البان، كطاووس
منتفش ريشه كان ذيله الذي يربو عن ذراع
ممتدة في سخاء و بذخ.
قرط من اللآلئ سطع، فلاح سناه
في العينين المريمية .....حتى تنازعا عن ايهما تولد؛ ومن به احق... القرطين أم
العينين.!؟
كسنابل القمح الذهبية عندما
يغازلها نسيم الربيع، عنوة كانت تدلى من بين المِشبك خصلات شعرها الغجري فوق
جبينها الوضاء.
اخبرينا يا مليحة، هل تبرعم الورد فوق الوجنتين؛ أم أنه
الكرز من استوطن الشفتين..!؟
بالله عليك....اصدقينا القول
يا ست الحسن، هل ورد مثل حسنك على بنات حواء؛ أم أنك به الفريدة يا ذات العيون
الشهلاء..!؟
متى حبا قلبك البتول على درب الغرام و من علمه فنون
الوله.!؟
,,,,,كم من الكلمات ازدردت و تكدست
في الحلق آنذاك، وقفت عاجزة عن الانسياب من بين تلك الشفتين المرتعشة الشهية،
لتلقفهم العيون الدرية، حسبها تبنتهم ببليغ السرد و التفصيل.
هي لن تقوى على احتمال أنصال
الوجد التي تشذب فؤادها البتول في بعده، كما يشق على يديها الناعمة أن تغامر بما
تملك من رغد,,,, وعلى الرغم من هذا عليها أن تسارع في اتخاذ قرارها، فلقد اطلق
القطار صافرته الآخيرة، نفثت المراجل الغاضبة بخارها، علا صوت المحركات ليأذن
للعربات بالسير فوق القضبان، و لن يوقفها غير مشارف محطتها المنشودة.
إنه هو... الزمن المدلل و
لعبته الرتيبة، يقيدنا بكلاليبه، ثم يقامرنا على خياراتنا، يخدعنا، يخضعنا لمعايره و شروطه الحتمية، إما ينوط
الروح بانفلاته البطيء، أو أنه يشعثها بركضه الوميض، و نظل وفق نفس السياق و
السباق حتى الممات، و لا يشذ من فلك الزمن
إلا من تخلت عنه الرصانة، و أصبح في عداد الا شيء..!!!
نسرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق