عيد-رمضان-معادلة-متراجحة-دار-الأيتام-صولجان-حنان-رحمة-إدارة-قوة-حزم-
مُعادلة
و مُتراجحة غير رياضية
الولادة
مؤلمة موجعة كما الموت مؤلم وموجع ...
تتألم
الأمّ ويتألم الوليد ثم تتأوّه الحياة...
نتألم
عند الموت ويتألم من حولنا ثم يزفر الموت...
لم أكن
أعلم أني أعيش في جزيرة عالمي المنعزل -الذي بنيت حوله سورا يحميني من المتطفلين
الذين يحاولون رمي الحجارة لإثارة الحياة الراكدة داخلنا - حتى دعتني إحدى
الصديقات في آخر يوم من رمضان وقبل العيد لزيارة دار الأيتام التي تشرف عليها إحدى
قريباتها ...
كانت
فكرة تقليدية في داخلي لصغيراتٍ يتيمات منكسرات لا تكاد إحداهن تحصل على أبسط حقوق
الإنسان وأني بما سأقدمه سأنهي بعضا من عذابهن وألمهن في هذه الدنيا ...
قبل
الإفطار بسويعات قليلة جهزنا ما نستطيع أخذه معنا، وانطلقنا ونحن نظن ونتأمل أننا نتزكى
ونغدق الشهر الكريم بالخير...
دخلنا قبيل الآذان بقليل واستقبلتنا مديرة ومالكة
الدار السيدة (حكمت) مرحبة بشيء من الرسمية واللامبالاة، ثم أشارت لنا أن نجلس على
الكراسي المصفوفة أمام مكتبها.
نظرت
إليها أتأملها:
كانت
تتوكأ على عصاة مزخرفة من خشب الأبانوس وفي نهايتها منحوتة لرأس حيوان كأنها
صولجان ملكة، وقد أحكمت قبضتها على رأس العصا بأظافرها القوية الطويلة المعقوفة
والمصبوغة بحناء برتقالية كأظافر الساحرات، وتلبس عباءة مبهرجة بألوان فاقعة، رغم
أنها منقبة إلا أن المساحيق الثقيلة الزاهية قد أثقلت عينيها
وأجفانها وفمها محاولة إخفاء عمرها الذي لابد وقد تجاوز الستين، أما نظرات عينيها فلم
تكن تهتز أبدا، كانت ثاقبة نافذة لا تطرف حتى تُشعر الذي أمامها أنه عارٍ تماما
يهوي ضعفه بين قدميه، ومع ذلك كانت تقهقه وتضحك عاليا في معظم الأحيان كساحرة حققت
مبتغاها وشعرت بالرضا والسطوة.
مّرت
دقائق توتر وتململ قبل أن يؤذن المغرب، وتوقعتُ أن أشرب رشفة ماء فقد جف ريقي، إلا
أن السيدة لم تقدم لنا شيئا وهي تشرب بكل وقاحة وتأكل أمامنا، وبعد أن انتهت وقد
كانت أصوات مضغها كمطرقة تطرق بقوة أعصاب أذني، طلبتْ منا أن نصلي المغرب، ونحن
حتى لم نرتشف قطرة ماء..
كنا
نتبادل النظرات القلقة المستغربة أنا وصديقتي ونتساءل بسرنا عن آداب وأخلاقيات
الإنسان والإسلام أو على الأقل آداب الشهر الفضيل.
بعد
الصلاة سمحت لنا جلالتها بالشرب وأخذ وجبة إفطار متواضعة، وكنا قد أحضرنا للفتيات
اليتيمات بعض النقود والطعام وطلبنا التجول في الدار ورؤية الفتيات لنعطيهم ما
أحضرناه بأنفسنا...
كانت
الدار على عكس ما ظننا، مجهزة بكل ما تحتاجه الفتيات، وكانت مقسمة إلى غرف، في كل
غرفة أربع فتيات بمختلف الأعمار، ولكل مجموعة في الغرفة قد خُصِّصَتْ مربية تسمى
بالأم. والكاميرات في كل مكان في الدار: في الغرف والحمامات والممرات والباب
الخارجي، وكان لا يسمح بإعطاء الفتيات أي شيء قبل أن تعاينه السيدة بنفسها وتسمح
بأخذه لهن من يدها حصريا، كانت فقط تأمر والكل يطيع...
لم
تسمح لنا بإعطائهن الطعام بدعوى أن الدّار قد جهزت لهن المعكرونة للإفطار وأن
الكثير من الطعام يُتبرع به للدار إلا أن السيدة تخزنه في الثلاجة أو في المخزن
إلى أن ترى إذا كان مناسبا ومتى يكون مناسبا تقديمه للفتيات...
كانت
السيدة (حكمت) قد جهزت النقود في ظروف مغلقة وجميلة لمعايدة الفتيات وكذلك
الكاميرا لتصوير المشهد المؤثر، ثم تم تصوير فرحة الفتيات بعيديات وهدايا العيد مع
موسيقا صاخبة وتهاليل وأناشيد، وتخلل للمشهد تصفيق السيدة و قهقهتها العالية كأزيز
مصاريع صدئة تحت وطأة ريح عابثة، وسألتُ -عندما سنحت لي الفرصة- إحدى الفتيات ما
الذي ستفعله بعيديتها فلم تجب إلا بنظرة مستغربة ومستهجنة للسؤال أوشحتها حيرة
طفولية.
تم تصوير المشهد وأُسدلت الستارة ثم نهضت فتاة
لتجمع الظروف والهدايا وتعيدها للسيدة (حكمت) وسط دهشتنا
وتعجبنا أنا وصديقتي، ثم تحوّل العجب والدهشة إلى سخط صامت، وتمنيت أنّ تلك السيدة
تودع المبالغ والتبرعات بأسماء الفتيات لتؤمّن مستقبلهن، أو لتصرف بها عليهن ،فقد كانت
تبدو ثقة الفتيات بها وبمربياتهن شديدة غير متزعزعة، وكُنّ غاية في الأدب والخضوع
والزهد في الهدايا والطعام الفاخر الذي عادة ما يُسعد الصغار، وكأنهنّ خراف صغيرة
في قطيع راعٍ يمشين خلفه وهن مستسلمات حتى لو كانت وجهتن المسلخ.
هنا تراءى لذهني المشهد الأكبر لمسرحية
الحكومات التي يؤديها حكامنا ونحن فقط خُشب مسندة أو رعية متفرجة، فهم يمتصون
أموالنا وجهدنا ودماءنا بدعوى أنهم يوفرون لنا الرواتب والماء والكهرباء والسكن
وكل متطلبات الحياة الصعبة التي نعيشها،
ودورنا فقط أن نصفق ونصفق ....
أحسست
وأنا أنظر لتلك السيدة أنني لم أقدم شيئا لليتيمات وأنها كتنين ابتلع في جوفه
النار ثم أذرى الهشيم في كل مكان.
أما
صديقتي رغم تألّمها مثلي واستهجانها لسلوك السيدة إلا أنها قالت لي:
"ربما
يجب أن تكون تلك السيدة صارمة قاسية حتى تستطيع إدارة الأمور وهذا العدد الكبير من
الفتيات بمختلف الأعمار صغيرات ومراهقات وصبايا في مقتبل الحياة. يجب أن تكون
قاسية تُمسك بالرحمة في قبضتها تلك كقبضة الساحرات وتُفلت القليل منها حين ترى أنه
مناسب ولكن لا تعطيه لهن بيدها، إنهن يحصلن على الحنان من الأم المربية ومن
الزائرات ومن العاملات.من السهل إعطاء الحنان أما القسوة والقوانين فمن الصعب
إرساؤها في هذا المكان، ألم تلاحظي كيف تحبها الفتيات
والمربيات ويطعنها؟! فهي تحافظ على الفتيات من الضياع في هذه الدنيا، وتؤمن لهن كل
الاحتياجات، وتسعى ليكون لهن مستقبل واعد ومشرق ".
قلت:
لا أدري أهو حب وطاعة أم خوف وخنوع؟
قالت:
في كلا الحالتين القوانين تطاع والفتيات محميات سعيدات. مثلي ومثلك بتلك القلوب
اللينة والتفكير المنفتح لا ننفع لإدارة بيتنا فكيف ننفع لإدارة دار للأيتام أو
مؤسسة ما؟؟ ربما كنا مخطئات، نحاول لملمة الماء بأصابعنا...
قلت:
الإدارة يجب أن تكون صارمة لا قاسية، الإدارة يجب أن تكون مُقنعة لا إرهابية،
الإدارة
يجب أن تحتوي الجميع وتضع القوانين وتطبقها حتى تُحترم ويسير خلفها الجميع...
قالت
صديقتي: هذه المعادلة ليست في هذه الدنيا...
عدت
لمنزلي منكسرة تتقاذفني الأفكار كقارب في عاصفة هوجاء لا ينفع فيها شراعٌ ولا
مجداف.
ربما
صديقتي على حق وربما كنتُ مخطئة، ففي النهاية الفتيات لا ينقصهن شيء، وجاهزات لشق
طريقهن في هذه الحياة.
دخلت
بيتي محاولة جاهدة أن أفرح بالعيد وأن أنشر فرحة العيد في الأجواء، إلا أن الحزن
والأسى دوما رفقاء الأعياد، ورحت أردد بيت شعر(المتنبي) الذي أردده في كل ليلة
عيد:
عيدٌ
بأيةِ حالٍ عدتَ يا عيدُ بما مضى أم
بأمرٍ فيك تجديدُ
نظرت في عيون ابني وابنتي لأستشف مشاعرهم، ولم
أر إلا اللامبالاة ومسحات من الحزن محت سمات أي فرحة، فبراعم في بلادنا تُدهس قبل
أن تتفتح، وأمهات تُجهض قبل أن تلد، ورجال مُكبَلون ومُستنزَفون، وبيوت تهدم فوق
رؤوس ساكنيها، لتفيض تساؤلات عن معنى الوجود وعن ماهية الحياة والموت....
دخلت غرفة
ابني الذي ربيته على الحنان والرحمة واللين، سألته بعد أن لاحظت عينيه الشاردتين
الحزينتين:
-هل
أنت بخير؟
عانقني وبكى ولأول مرة أشعر بدموعه وبألمه، ثم عانقته بقوة وأنا أهمس لنفسي:
( سأسحب كل
ذلك الألم منك، سآخذه كله) وبلحظات تسلل الألم من صدره مخترقا صدري كخنجر، إلا أنه
حرّر كل آلامه.
ابتسم
وقال: آسف أمي أني أحزنتك ولكني الآن أشعر أن كل شيء بخير.
قلت: وأنا أشعر أن كل شيء بخير.
وضعتُ
راحتي على صدري وذريتُ كلّ ذلك الألم ...
لذة
العطاء تعادل لذة الأخذ، وطبيعتنا كبشر أن نعطي ونأخذ حتى تتوازن المعادلة، فإن
أعطينا دوما سينهك كاهلنا العطاء وينفد ونفقد القدرة على إعطاء ما لا نملك، وإن
أخذنا كثيرا سينتفخ الأنا فينا حتى يبلغ ذروة الأنانية وعندها أيضا نفقد ما
نملك...
لو أننا فقط نوازن طرفي هذه المتراجحة....
نادية محمود العلي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق