ربما لا يبدو للناظر ذلك لكن الحقيقة أنه لا تستهويني الحلويات، و لطالما تساءلت لماذا غاب عن المصانع تغليف مصاصات المخلل أو مثلجات الجبن المعتق و بيعهم.. لا بأس ربما جنون رغبتي يسبق المستثمرين بزمن..!
الليلة اشتقت الحلوى على غير العادة و لم تثنيني عقارب الساعة التي اقتربت من موضع الثانية عشر عن رغبتي
نزلت للشارع و نسمات خريفية باردة تصاحبني، شجعني أن هدفي يبعد مسافة عبور طريق عن بيتي ، بعد دقائق قليلة من قرار النزول كنت قد دلفت دكان الحلويات التركية المعهود، كالعادة استقبلني البائع بحماس غير منطقي شعرت من خلاله أنه ينتظر مني خبر مهم أو حكاية مثيرة..!
بهدوء يحمل قدر لا بأس به من تؤدة اقتربت منه ثم مررت سبابتي فوق شفتي و بعيون مترقبة للقادم المجهول تركت لفطنته الدور كي يدرك أني بلا صوت يمكنني من التواصل اللغوي معه...
لاحظت في عينيه بعض حيرة لم أترك لها المجال لتستقر في نفسه، باغته بلغة الاشارة مقرونة بحركات الشفايف و اخبرته أن يزن لي ربع كيلو من كل صنف أشرت إليه...
باشر البائع بخدمتي و تهلل وجهه عندما أطمأن أن ثمة سبيل متاح للتعاطي مع زبونة صامتة، بعد أن ظن أنه في مأزق عسير ليس منه مخرج..!
تناولت منه طلبي و سددت له الثمن فأسقط في جيبي بعض فكة كباقي ثم انصرفت من الباب الذي دلفت منه منذ دقائق.... أنا شاكرة واضعة يمناي على صدري كما علمونا لنعبر بجسدنا عن الامتنان ..
و هو يشير بيمينه مودعا ... عندها التقطت عيني حروف "مرحبا" من بين شفتيه خرجت أيضا بلا صوت مسموع..!
ترى ما الداعي..!؟
لماذا شاركني بائع الحلويات عجزي عن الكلام و قرر أن يبادلني الصمت و الاشارة
هل يحدث أيضا أن نمل الثرثرة و الحديث فنركن إلى الصمت و الاشارة في حياتنا ،أم أن الموضوع بريء تماما من جرم العمق ،و حدث ذلك بمرجعية في منتهى السطحية و البساطة لذوق البائع و كرم أخلاقه..!؟
كانت تلك تجربة مررت بها مؤخرا، اختبرت معها مشاعرا جديدة عندما فقدت صوتي فجأة و لكن في ظروف ليست غامضة ....
خرج صوتي و لم يعد الا بعد ثلاثة أيام، و عندما عاد من غيبته كان منهكا مبحوحا و كأنه ظل على قيد الجلجلة خلال مدة غيابه في عالم آخر..!
تجربة تستحق التدوين للذكرى... أن تفيق ككل صباح و تهم بنطق صباح الخير لأهل بيتك فتقف الحروف عند سقف حلقك متعنتة عازفة عن الخروج و تفشل كل محاولاتك لترويض تلك الحروف المشاكسة..!
فتقرر أن تجرب غير "صباح الخير" ربما توفق لكن للأسف يصبح مصير كل جملة و عبارة و حرف تود أن تخرجه نفس مصير صباح الخير البائسة تلك..!
فتحاول أن تهدئ من روعك و تردد في قرارة نفسك أن لا شيء يستحق الفزع ،و فورا ستخرج الحروف الحبيسة من مكامنها بعد أول رشفة من مغلي الزعتر و الزنجبيل،
لكن تكتشف أن الوضع لم يتغير لا بعد رشفة ولا كوب و لا حتى جالون من كل ما هو موصى به في تلك الحالة..!
لقد هرب صوتي الذي لازمني منذ ولادتي، صوتي الذي أخبرت الكون من خلاله أني قد ولدت ...
صوتي الذي عبر عني خلال الأربع عقود الماضية، اليوم و بلا سابق انذار اختفى و خذلني بالتحديد عند "صباح الخير"..!
يبدو أنه قد مل مني و هرب، أو ربما قرر أن يأخذ استراحة لنقييم خلالها علاقتنا..
لا بأس فليس من سماتي التشبث بطرف ثوب الراحلين، يذهب حيث شاء، و يعود أو لا يعود " مش قصة هي" هنا بالتحديد قررت أن علي التكييف مع الوضع الجديد و التوصل إلى حل معه تستمر الحياة حتى و إن كانت بلا صوت..!
لا بأس ...فلست فيروز الشرق مثلا و سينتحر عشاقي عند عتبة بابي...
و الحمدلله الذي جعل صوتي ليس باب رزقي
...اذن حتى بلا صوت تستمر الحياة ..و كعادتي افتش عن كل جميل في كل مصاب ..
شمشمت عن النعمة في حادثة هروب الصوت فوجدت كنز الراحة الابدي..!
أووووف...........
ما هذا الجمال الذي سقط علي من حيث لا أدري
أنا لست بحاجة إلى التبرير و التحليل و التقرير
أنا معفية من السرد و من المبادرة و كل ما هو مسامرة
أنا لست مجبرة على مسك طرف الحديث في أي حديث كان
أنا متفرجة و متأملة و منصتة كما يروق لي دائما أن أكون ..!
يا للهول ...لا ينتظر مني أحدهم رأي ما أو حكاية ما تقابل حكايته،و كل من يجالسني يعلم سلفا أن عليه وحده أن يدير الجلسة بالشكل الذي يريد، و الا سيكون مصير جلستنا السكات..
لا مجادلة ،لا براهين ، لا أقناع
يعزفون عن اهدار حكاويهم لك ليقينهم أنها ستفتقر للمقابل..
رويدا رويدا تتلاشى ثرثرتهم و حروفهم الرتيبة التي اعتادوا أن يسكبوها قسرا في أذنك...
فتجدك و قد طاااااالت مساحات السكون في يومك ..!
باختصار لقد اكتشفت أني طلعت باجازة..... شهر العسل لا يفوقها في الجمال..!
ربما كان هروب صوتي هبة من هبات الحج، أفزعني غيابه في بادئ الأمر لكني أكتشفت بعدها أنه هدنة لا ضير منها على فترات، بل تالله حينها ارتأى لي أنه تسكن عند حدودها النيرفانا ،و ربما هذا بالضبط ما دعى بائع الحلويات التركية لمشاركتي تجربة هروب الصوت..!!!
نسرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق