عندما طفت العالم
لمن لا يعرفني، أنا رحّالة كابن بطوطة،
أهوى السّفر ولا أكاد أستقرُّ في بلدٍ! زرتُ بلاداً لم يسمعْ عنها السّندباد! واجتزتُ
بحاراً لم يتبللْ علي بابا بقطرةٍ من مائها! أكلتُ طعاماً شهيّاً دسماً في بلادٍ نائيةٍ
لم تخطر على بال أشعب! رأيتُ نساءً جميلاتٍ لم يرهنَّ عمرُ بن أبي ربيعة يوم
أُحبُّ أن أرى الأنهار تجري نحو مصرعها
في البحر، ويسحرني خريرُ الماء، موسيقى عذبة تعزفها القطراتُ بأصابع الفتنةِ على قيثارةِ
الأرض! أما الشّلالاتُ فتلك فتنة أخرى، لم أسمعْ بشلالٍ ساحرٍ إلا زرته! زرتُ شلالات
فيكتوريا في نهر زامبيزي على الحدود بين زامبيا وزيمبابوي! هناك لا شيء إلا الماء،
صوتاً وطعماً ولوناً ورائحة! لا تُصدّقوا أولئك الذين قالوا ليس للماء طعمٌ ولا لونٌ
ولا رائحة، هناك ستعرف أنّ ما قالوه هُراء!
زرتُ شلال آنجل في فنزويلا، آية من آيات الخالق، يقع في غابة استوائيّةٍ نائيةٍ
ليس من السّهل أن يبلغها البشر ليشوهوها، هناك الماء له رائحة التوابل، ونقاء الزّجاج!
زرتُ شلال إجواز على الحدودِ بين البرازيل
والأرجنتين، ذاك شلال لا تشعر وأنت تنظر إليه أنه يهوي رغماً عنه، تحسبه يقفز بإرادته،
كمن يمارس هواية مفضلة ولكنه لا يكفُّ عن ممارستها أبد الدّهر ! أما عن شلال جولفوس
في آيسلندا فلا أعرفُ ما أقول، كيف يصفُ الإنسان شلالين أحدهما يصبُّ في الآخر، أي
لغةٍ تسعه ليفعل هذا، وأي كلمات ؟! هناك تعرف أنّ كلّ ما تكبدته من وعثاء الطريق للوصول
إلى هنا لم يكن شيئاً! أُحبُّ القهوة كثيراً، وإليها أشدُّ الرّحال، وأضربُ أكباد الإبل،
ما سمعتُ يوماً بمكان تُدار فيه القهوة إلا أتيته، لا بحثاً عن الطعم فقط، ولكن عن
الرّائحة أيضاً، رائحة القهوة أحد عطوري المفضلة التي لا تجاريها كل عطور باريس ولو
وضعوا فرنسا كلها في زجاجة عطر!
في نجدٍ شربتُ قهوةً عربيّة، تخيّل أن يجتمع
البُنُّ والزّعفران والهيل في فنجانٍ واحد! هذا ناهيك عن طعم التّاريخ، هناك الفناجين
فيها شيء من حزن الخنساء وهي ترثي صخراً، صدقوني يمكن أن يشعر المرء بحزن القهوة! وعلى
وجه الفنجان ترى قس بن ساعدة يخطب العرب في سوق عكاظ بحضرة نبيّهم الذي لم يصبح نبيّاً
بعد! شربتُ قهوةً تركيّة في اسطنبول، فيها طعم الفتوحات، ورائحة محمد الفاتح على أبواب
القسطنطينية، قهوة لها طعم عزّة، تذكرك بالسلطان عبد الحميد وهو يقول: إنّ عمل المبضع
في جسدي أهون عليّ من اقتطاع بيت المقدس من دولتي! وقال لي ايميري النادل حين قدمها
لي: القهوة تُشربُ على مهل!
وفي روما شربتُ الاسبرسو، قهوة فاتنة، سميكة
وكثيفة، لا تشوبها شائبة، كأنّ أفلاطون أعدّها في مدينته الفاضلة، وكأنّ سقراط ناوله
البنّ، وأرسطوا حضّر له الفناجين! للاسبرسو رغوة ذهبيّة، وإضافة السُّكر إليها جريمة،
فإياك أن ترتكبها! وفي باريس شربتُ قهوة لاتيه على أصولها، كانت شهيّةً جداً، ترددتُ
بادئ الأمر أن أشربها، فلم استسغ فكرة أن يجتمع الحليب والقهوة في فنجان، ولكن ماركوس
اللاتيني شجّعني، فشربتها، فأخبرني عن وصفتها السرّية، وقال لي : اكتُبْ عندك : لاتيه
تساوي ٦٠ ملل اسبرسو، و٣٠٠ ملل من الحليب المبخر، و٢ ملل من الحليب المخفوق، وإياك
أن تزيد!
أحبُّ الشواطئ كثيراً، أحسبُها قطعةً من
الجنّة على الأرض، لا هي يابسة ولا هي بحر ! هكذا هي بينٌ بينَ بيْنَيْن! أُيممُ وجهي
شطرها دوماً! زرتُ شاطئ وايت هافن في أستراليا، كان جميلاً حدّ الذّهول، أنقى شاطئ
رمليّ في العالم، والبشر ليسوا بالغيه إلا بشقّ الأنفس! إذا أخذتَ كمشة رملٍ منه غرّموك
خمسين ألف دولار! ولكني أخذتُ ولم يضبطني أحد! أمّا عن شاطئ بونالي في هاواي فحدّث
ولا حرج! هل رأيتم شاطئاً أسود؟! هكذا هو ... رمله حالك كأنّ الليل يختبئ فيه إذا جاءته
جحافل الضوء تقودها شمسُ الصّباح! وقد صار هكذا نتيجة تلاقي الحمم البركانيّة الملتهبة
مع مياه المحيط الباردة
وزرتُ شاطئ نوجوي في زنجبار، هناك حيث
ينزلق الرّمل تحت قدميك بنعومة، فتشعر أنّ ثمّة من يُدلّك لك قدميك! وزرتُ شاطئ نافاجيو
في اليونان، تقول الأساطير أنّ القراصنة يدفنون كنوزهم هناك ثمّ يضلّون الطريق إليها،
فذهبتُ وحفرتُ، ولكني مثلهم ضللتُ الطريق! ولكن من يحفل بضياع كنز حينما يكون على مقربة
من البحر بعيداً عن النّاس!
أُحبُّ المكتباتِ كثيراً، شيئان لا يمكنني
أن أتصوّر الأرض دونهما، المكتبات والمساجد، وما تبقّى كماليّات! تغريني الكتب، وهي
عندي أكثر فتنة من النّساء، لدرجة أني لا أستطيع أن أقول لا لمكتبة قالت لي هيتَ لكَ!
زرتُ مكتبة آدمونت آيبي في النّمسا، تخيّلوا معي مكتبة أعلى جبال الألب، هناك حيث مرّ
هنيبعل في إحدى أجرأ المجازفات في التاريخ! في المكتبة ما يقارب مئتي ألف كتاب! هذا
مكان تودُّ لو أغلقوه عليكَ وانصرفوا! زرتُ مكتبة جورج بيودي في ميريلاند في الأمم
المتحدة، الرّهيب في المكتبة أنها تحوي الأصول النادرة لأوائل الكتب المطبوعة على وجه
الأرض، إنها فتنة رائحة الحبر الأولى وقد عتّقها الزّمن، إن الحبر إذا تعتّق فاق النّبيذ
فتكاً
!
أُحبُّ الطّعام الشهيّ، وأتتبعه من مكان
إلى مكان كما كان العربُ يرتحلون من مكانٍ إلى مكانٍ بحثاً عن الكلأ والماء ! الطّعام
ثقافة وحضارة وليس مجرّد وجبة نقتاتها! قل لي ماذا تطهو أقُلْ لك من أنتَ! التّوابل
في الهند هويّة بلد وليست منكّهات! والمدفون في جزيرة العرب أكثر من لحم وأرزّ، البيتزا
في إيطاليا ليست نوعاً زائداً على المعجّنات، والكنافة في نابلس ليست مجرّد حلوى!
زرتُ مطعم " el celler de can roca " في إسبانيا، هناك طعم المحار مذهل، ولا
أعتقد أن مكاناً آخر على وجه الأرض يمكنه أن يقدمه بهذه الطريقة، هذا المطعم كأنما
هو قطعة من أعماق المحيط! زرتُ مطعم " osteria francescana" في إيطاليا، هناك الباستا التي يطهوها ماسيمو
بوترا تخبرك عن إيطاليا أكثر مما تفعل أزياء ميلانو، وأكثر مما يفعل فريق السّيدة العجوز!
زرتُ مطعم
" narisana " في اليابان، وأكلتُ السّوشي على أصولها، في اليابان
أي شيءٍ لا يخطر لك على بال يمكن أن يصبح وجبة، هؤلاء القوم يأكلون أي شيء، ويعبدون
أيّ شيء! ولكنهم في العلم والعلوم والأخلاق لا يرضون بأيّ شيء !
أُحبُّ الأماكن التّاريخيّة كثيراً، أراها
أكثر من مجرّد حجارة، وأوافق المجنون قوله يوم قال:
أمرُّ على الدّيار ديار ليلى
أُقبّل ذا الجدار وذا الجدار
وما حُبُّ الدّيار شغفنَ قلبي
ولكن حُبُّ من سكن الدّيار
زرتُ سور الصّين الذي بدأ بناءه تريكو تشانغو
ليحمي الصّين من أعدائها، تخيّل كيف يمكنك ألا ترى بناءً يمكن رؤيته عن سطح القمر،
هناك حين تتمشى على ظهر السّور تشعر أنّك تمشي على التّاريخ، ثم ينتهي السّور عند مكسر
الموج على الشاطئ! زرتُ الكولوسيوم في روما، مرتع النشاطات الفكريّة والثّقافيّة لخمسمئة
عام تترى! هناك يجتمعُ الفكر والجنون على صعيدٍ واحد! بناه فلافيو فسبازيان، وأحرقه
نيرون! زرتُ تاج محلّ، هناك تعرف كيف يمكن للحُبّ أن يكون أقوى من الموت! تموت تاج
محلّ الأميرة الفاتنة، فيمضي زوجها شاه جيهان ستة عشرة عاماً يبني لها قبراً، حتى خرج
تحفةً معماريّة تجمعُ عمارة الفرس وعمارة العثمانيين على صعيدٍ واحد!
أتمنى أنكم استمتعتم بالرّحلة التي أخذتكم
بها معي حول العالم، بقي أن أخبركم أني لا أُسافر، وأني أحمل وثيقة بالكاد يمكن تسميتها
جواز سفر! ترفضها أغلب السّفارات، وتتوجسُ منها معظم المطارات، ولكني قررتُ رغماً عن
هذا الكوكب وحكوماته أن أسافر، فقرأتُ، كثيراً قرأتُ، لأني اكتشفتُ أنّ الكتب جوازات
سفر الفقراء والمضطهدين والمطرودين الذين تركلهم السّفارات وتطردهم المطارات!
بقلم : أدهم شرقاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق