خيوطٌ من نور لا ينقطع ....
ترتجف
يدها كمن وصل برد الجليد والصقيع حتى عظامه ، وشفتاها
عاجزتان عن الكلم ، وبفزع
تراقب عيناها الخطين الظاهرين على
أنبوب
اختبار الحمل ...
-
لا ..
لا يمكن أن أكون حاملا ، لا أريد ن أكون حامل ، يا ربي ! ساعدني !
وهو يحاول أن يخفف عنها :
-
إنها مشيئة الله !
وضعت رأسها بين كفيها :
لا تريد طفلا جديدا ... أكرمها الله بأطفال
ملائكة ، ذكورا وإناثا .... ما أجملهم !
ولكن
لن تنسى عذابها بالحمل بهم وبإرضاعهم ، بعدم نومها في
الليل لبكائهم ، وبكفاحها
لإزالة آثار الحمل واسترجاع رشاقتها ،
بمسؤولية تربيتهم ، بخوفها عليهم عند
ذهابهم للمدرسة ، وعند
رجوعهم ، وعند خروجهم ، وحتى في نومهم ، تستيقظ لتغطيهم
وتقرأ لهم الأذكار والتحصين .. بلهاثها عقدين من الزمن وراءهم ،
ككلب وفيّ ليس همه سوى إرضاء صاحبه ..
و الآن
، لا تدري أهي نعمة أم نقمة ، هذا الحمل المتأخر ..
رفعت
السماعة بجنون يتوشّح الهدوء :
-
ألو .. كيف حالك يا "غصون " !
أرجوك
أخبريني ماذا فعلتِ حتى تجهضي طفلك الأخير ؟؟
-
لا حول ولا قوة إلا بالله ! مستحيل أن أقول لك ، استهدي بالله وتوكلي
عليه ، كله خير من عند رب العالمين وألف
مبروك الحمل ....
أغلقتِ
السّماعة ، لكن الجنون كان يستعرُ في عينيها ، وخوف
ممزوج مع حنق وقلق : ماذا تفعل
؟!!!
حاولت
رفع أشياء ثقيلة ، وإرهاق نفسها علَّ الجنين يسقط لوحده ،
لكنَّه ازداد تمسكا
بجدار رحمها ، و رفض أن يتخلى عنها - رغم
محاولاتها جاهدة أن تتخلى عنه - ونشب أظافره الطرية في
ظلمات أحشائها الثلاث
معاندا رغبتها ...
وفي
بداية شهرها الرابع استسلمت للواقع ، وقررت أن تراجع
الدكتورة وتتابع معها الحمل
...
الطبيبة
وهي تتفحص بعينها شاشة السونار :
_
ما شاء الله ! كل شيء بخير ، حجم الجنين ونبضه وحركته وكمية السائل حوله ، ولكني
لا أستطيع أن أتبيَن جنسه ، فهو في وضعية السجود والحبل السري بين رجليه ، سبحان
الله !! انظري !!
رفعتْ
رأسها ونظرتْ إليه ، وكان يبدو في وضعية
سجود مهيبة ، ويرفع جبهته كل قليل ويعود للسجود ...
وهالها
ما رأت ، فهذه أول مرة ترى هذه الوضعية في
حملها بأطفالها كلهم !!!
شيءٌ
ما تحرَّك في قلبها ، وأحسَّت بارتباط
عجيب مع هذا الجنين
،تضافر مع ندم شديد أنها فكرت في التخلص منه يوما ، وهو يسجد
لله بفطرته ، وهي تتذمر ولا تحمده ولا تشكره ...
كم
من امرأة تجلس في العيادة خارجا ، تراجع الطبيبة كي تستطيع
أن تحمل بطفل واحد ، أو
أجهضت طفلا وتريد أن تحمل ثانية ، وهي
كانت تريد التخلص من طفلها ، أيُّ أمٍّ ! وأيّ امرأة جاحدة هي !!!!!
تحشرجتْ
الكلمات ، وضاعت المعاني وتاهت مشاعرها ، أمام رؤية
نفسها العارية ، وأمام العيون
التي كانت تحدِّق فيها وهي خارجة
من العيادة وكأنّها تلومها ، وتكاد تسمع إحداهن
تقول لها : " لم لا
تعطيني طفلك أيتها الجاحدة ! "
وأخرى
تهمهم : " أي امرأة وأمّ كافرة بنعمة
نحن نتمناها كلّ يوم !!! "
هزَّتْ
رأسها وأغلقت آذانها بأصابعها وخرجت مسرعةً إلى زوجها
لاهثةً ، تتموَّج في عينيها نظراتٌ كقوس
المطر مُتدرِّجة بألوان سبعة
من : الذهول والتشتت و المحبة و الندم و القلق والخوف
والرجاء ....
وقالت
:
-
عزيزي ، إذا كان الجنين بنتا : سنسميها
" ساجدة " ، وإذا كان ولدا سنسميه : " ساجد " ...
وافقها
على الفور وحمد الله أنَّ كل شيء بخير ...
مرَّتْ
الشهور الأخيرة متعبة مرهقة ، وحان موعد ولادتها بعد تأخر
أكثر من أسبوع ، وكأنه
يرفض الخروج ، ويتشبثُّ بإصرار في أحشاء
أمه ، حتى حانت لحظات المخاض الرهيب
المؤلم ، وخرج إلى
الحياة صارخا : طفلا
صبيا جميلا ، بسرعة أخذوه عنها بعيدا ،
وصارت تنادي الممرضة لإحضاره ورؤيته ، وبعد إلحاحها أحضرته لها
وهي تحمله من الخلف ،
ووجهه باتجاه أمه المستلقية ، وكان
يبكي ، فقالت له بهدوء :
-
لماذا تبكي يا ماما لماذا ؟؟
ومدَّتْ يدها نحوه فأمسك سبَّابة يدها
وأطبق عليها بقوة بيده
الصغيرة الجميلة ، وكفَّ عن البكاء وهدأ ...
لن تنسى ما حَيِيَتْ عمرها هذه اللحظة
، ورابطة فريدة ربطت
بينها وبين الصغير ، في تلك اللمسة وتلك اليد الصغيرة الطرية ،
التي أطبقت بقوة هائلة على إصبعها ...
بعد أن خلت به ، فكت ثيابه عنه وراحت
تتفحص كل جزء من
جسده الصغير حتى تتأكد أنَّ الله لم يعاقبها بأخذ جزء منه أو
إنقاص إصبع أو تشوّه ما ... واستغفرت لربها ، وشكرته وحمدته
كثيرا أن أعطاها طفلا
كامل الخلق ..
كم من أشياء كثيرة تُفرض علينا في هذه
الحياة ! ونظنُّ أنَّها شرٌّ
لنا وأنَّ حياتنا ستكون جحيما معها ، ويتبيَّنُ لنا
ولو بعد مدَّة أنها
خير لنا بل وخير كثير ، وكنا بجهالتنا وعدم صبرنا وتسرِّعنا
سنفقدها وتضيع منا ...
وكم من مرّة نظن أنّها النهاية ! فإذ
بها البداية ، فلم لا نشكر ربنا
في السَّراء والضراء ونتروى ولا نتعجل حتى نتبيّن
خيوط النور في
كل حكاية من حكايا حياتنا !!!
****
بقلم مؤيدة بنصر الله / نادية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق