نور-الشمس-أشعة-حرية-نسرين-كوكب-الأرض-إشارة-
يا
نسرين!
صباح
خجول بدأ ينثر أشعته اللطيفة رويدا رويدا كأنه يرشق قطراتٍ عذبة فوق شفاه عطشى.
لأوّل مرة أحبُّ الشمس!
لطالما
عشقتُ أقطان الغيوم وهي تحجب ضوء الشمس ثم تمتص الرطوبة من الأثير ولا تلبث أن
تعصرها طلا أو تنسكب منها وابلا عندما تنوء بحملها، وعشقتُ الرياح عندما تثور
عاصفة أو إعصارا وتهز وجه المحيطات موجا هائجا...
كانت
صديقتي (نسرين) -التي تعشق الشمس والنور- تسألني دوما مستغربة عن هذا الشغف
الكئيب، وكنت دوما أخبرها أن في هذا المشهد هيبة وعظمة من لمسة الخالق؛ لكني في
ذلك الصباح تجاوزت بوابة منزلي نحو السيارة، وفجأة أحسست بأشعة الشمس تتسلل إلى
خلايا جسدي وتلمس فؤادي فأتنشق الصبح لتتوسع رئتي التي ثقلت من أعباء الهواء
الرطب، وتدفئ قلبي الذي برد من هموم الشتاء، ويرتعش عقلي الذي يبس من سكون الأفكار
حتى غدا صلدا ثقيلا في تلك الجمجمة الجوفاء ...
ركبت
السيارة كالعادة، وكآلة كنت أحفظ الدرب وعند تلك اللفة التي خرجت من زحام الشارع
العام إلى طريق فرعي -على جانبيه انسدلت أغصان السدر و احتضنته الجبال بين
أكتافها- ابتسم الصباح في عيوني مباشرة سهامَ طاقة وحياة انغرزت في قلبي، فابتسمتُ
له....
تلك الأشعة انطلقت من رحم الشمس خطوطا مستقيمة
أو أمواجا -لا فرق- تشع باستمرار حتى في ليل كرتنا الأرضية، تعطي النور للكواكب
والأقمار بانعكاسها. أهي حرة؟! أم أنها مقيدة برحم أمها؟؟ أزلية أبدية؟ أم ستنطفئ
يوما ما؟
لا
أدري ...
تمنيتُ
أن أكون مثلها منطلقة، لا عودة لرحم أمي ولا عوائق توقفني، أنعكس أو أنكسر، أغير
الزوايا والالتفافات، إلا أني دائما أحلق حرة أعطي وأعطي حتى أنطفأ...
كنت أصغي لأنغام فيروز لكني أطفأت مشغل
الموسيقى في سيارتي، احتجت للصمت وتناهى لسمعي ضجيج ممزوج بزقزقة عصافير نسجتْ من
أغصان السدر أوطانا لها.
أصغيتُ وأصغيتُ وهُيئ إليّ أن لأشعة
الشمس صوتا، سمعته يهمس لي:
"أرأيتِ كلّ السيارات التي تجاوزتك من دون
صبر وجعلتك تغيرين المسار وتثورين بعصبية قليلا؟
عند
الإشارة الحمراء توقفتم جميعا معا، لم يسبق أحدٌ أحدًا، وعند الضوء الأخضر أسرعوا
بجنون ولكن توقفتم مجددا جميعا معا عند الإشارة الحمراء التالية ولم يسبق أحد
أحدا، أليس الوقت مجرد اختراع بشري نسبي؟!
في النهاية ستصلون يا صغيرتي معا. لو كانوا
يعلمون"
وتأسفتْ الأشعة على البشر، على طغاة حجبوها عن أسرى وسجناء معتقلين تحت الأرض، حاولتْ بكل قوتها اختراق الطبقات المظلمة ولكن من دون جدوى، حاولت أن تضيء شعلة أطفال ولدوا في الظلام ولم يعرفوا الكلام ولم يُسموا المسميات بأسمائها وربما تعلموا لغة الظلمة والخوف، وأناس ولدوا في النور إلا أن الظلمة ابتلعتهم ونسوا أسماءهم والمُسميات وتوقفوا عن حساب الأيام والوقت....
أقسمت لي أن بصيصا صغيرا منها كان يتسرب قليلا
دون أن يلاحظوه ولم يعط الأمل بيوم جديد لهم لأن وحشية البشر فاقت لطافة الشمس،
وعذاب الأسر فاق نشوة حريتها...
تأسفتْ أشعة الشمس مجددا على كوكب الأرض، إلا
أنها عانقتني وقبّلت جلدي و وعدتني بأن شحنتها من النور ستصل كل يوم إلى قلبي، وهمّتْ
بالابتعاد عني لكني استوقفتها:
-لا
ترحلي!
-اممم!!!
-أريد
أن أسمعك
-فهمت...
في رحم
أمي الشمس كتلة من جليد مظلم ولدتني، وعندما تنطفئ أمي ستتحول ثقبا أسودا في
الفضاء...
الجليد
يحرق ويلسع والنار أيضا ...
صغيرتي
لا أدري إن كنت تفهمين، بمجرد أن نُخلق فنحن لسنا أحرارا أبدا، وقد يكون غريبا أن
أقول لك أن النور والظلام واحد، نعيش في كلتيهما، ولكلٍ منهما طاقة، تعلمي أن
تستشعريها وتغربليها وتصطفيها...
-هل
تعودين لأمك الشمس أم أنك تتشتتين وتفنين في الفضاء الواسع؟
-أظلّ
محلقة، تارة أحنو وتارة أقسو، تارة أنفث نسيما وتارة لهيبا حارقا، لا أفنى، تمتصني
المخلوقات أو أتحوّل لطاقة، وتارة يشدني الحنين للعودة إلا أني لا ألتفتُ أبدا،
أنت ترين ماضيَّ ومستقبلي يا صديقتي...
-لماذا
لا أشعر بالارتباط بمكان أو زمان؟
- لأنك
مثلي........
هذي المرة ابتسمتْ وانطلقتْ دون انتظار لأنّها
لا تستطيع التوقف، ابتسمتُ لها ولوحتُ لها وما زال نسيم التفافها يلفح وجهي وأنا
بشوق لصباح يوم جديد...
عند
الظهيرة لم يعد الصباح خجولا وبات يضرب بسيوف الشمس الحارقة، ولكني سأبقى في الظل
أنتظر الصباح التالي بشغف، فلولا الشمس ما كان الظل... ما كان الصباح ...ما كان
يوم جديد...
نسرين
صديقتي الآن عرفتُ لماذا تحبين الشمس ...
****
نادية محمود العلي