أخ-حب-مضيئة-ديدان-لاتقترب-مسافة-موت-حياة-
لا
تقترب
كوَّرَتها
بيدها ورمتها " سأرسم بالفحم إذن، يبدو أن الكلمات لا تنفع" همست
لنفسها....
ثم كوّرتها
ورمتها "سأعود للكتابة، ربما يسعفني عصر الكلمات" همست ثانيةً...
كوّرتها
ورمتها بعصبية " أفٍّ لكِ من فاشلة" وبَّخت نفسها ....
تأمّلت
كومة الورق المُكوَّر باستسلام ثم استلقت وأغلقت الجفون فبدأت تتلألأ من خلال الشّقّ
الصغير في عينيها ظلالٌ من نور ملوّن تحوم أمامها كنجوم، كأضواء الاحتفالات....
تذكّرت
عندما كانت طفلة صغيرة وكان المطر يهطل بغزارة في ليلة حالكة السواد، ولما توقف
المطر، بدأت تتلألأ في التراب أضواء فوسفورية ظنت لبراءتها وهي تشهق أنها نجوم قد
سقطت مع المطر من الفضاء، ليهزّ رأسه أخوها وهو يضحك: إنها ديدان مضيئة يا
صغيرتي...
بدا
التفسير حينذاك محيّرا أكثر من لو أنّ النجوم سقطت مع المطر، لكن لا يهم، وعادت
عيناها لسبر هذا الجمال المهيب من خلف زجاج الباب، لكنّ النظر لم يكفيها فدفعت
الباب وخرجت وكلما اقتربت انطفأت الأضواء، فحزنت وجلست القرفصاء تتلّمس التّراب
الذي أضحى طميًا لزجًا، وأخرجها صوت أخيها ثانية من أفكارها: ادخلي ستبردين،
أخبرتك أنها ديدان وقد خافت أن تؤذيها باقترابك منها...
ابتعدت
متمنية أن تعاود هذي المخلوقات التلألؤ، إلا أن هذا لم يحدث، وانتظرت طويلَا خلف
الزجاج دون جدوى، وللأسف لم تر هذا المشهد ثانية طوال حياتها.
"لا
تقترب فأنطفئ ولن ترى مني إلا الجانب المظلم، رجاء أبقِ مسافة لتراني جميلة وأراك
جميلا"، هكذا علمتها الديدان المضيئة...
ترك
مسافة لم يكن سهلا، وفي أسوأ الحالات كان الابتعاد بهدوء وصمت هو الحل لمن يحاول
اختراق المسافة، وقد يتطلب الأمر صراعا مُرهقا مع بعض الشخصيّات النرجسيّة السّامة
التي تنفخ سُمّها حولك فتتخدر وتصدّق أنها تحبّك لحدّ الجنون...لحدّ الاستحواذ
...لحدّ الاختناق...
سنون
مرّت وكم نتغير على مرّ السنون!
في ذلك
اليوم كانت نظراتها تبدو كأنها منفصلة عن هذا العالم، وهي تقرأ رسالة أخيها:
(أختي
الحبيبة:
هل
تذكرين صغيرتي تلك الحشرات المضيئة التي ظننتها يوما نجوما هطلت من السماء؟
قد رأيتهُا منذ فترة وهرعتْ ذكراكِ لقلبي، وتيّقّنتُ
كم أفتقدكِ وأتمنى أن أراكِ قريبا، فقد طال غيابك لسنوات مديدة. تخيّلتُ لوهلةٍ أن
يجمعنا الموت مع وفاة والدك ثم وفاة أمك، إلا أنّكِ لم تأتِ ولم يستطعْ الموتُ أن
يقرّب المسافة، لكن لا بأس لعلّه خير.
أختي!
أريد أن أخبرك سرًّا، لقد اقتربتُ من تلك الدّيدان المضيئة وانطفأت كلها إلا
واحدة، احزري ماذا؟ قد أكلتها هههههههههه ..
هناك
سرّ آخر صغيرتي، أتمنى ألّا تقلقي عليّ فقد دخلت المشفى إثر جلطة دماغية مرّتْ
عابرة، والحمد لله أنا اليوم بخير..
كلّ
السلام .... أخوك )
كانت
آخر رسالة مكتوبة بعد أن اكتسحت تقنيات التواصل الاجتماعي الساحة وزجّت في المتحف
الورق والكتابة والمسافات كذلك ...
في هذا
اليوم أيضا كانت تبدو نظراتها منفصلة عن العالم حولها فقد رأت حلمًا غريبًا فيه
كانت تحاول الهروب من شخص يلاحقها فحبست نفسها في سجن مظلم، واستيقظت وبقيت عالقة
في ذلك الحلم فبدت نظراتها تائهة في عالم آخر، ثم سمعت خبر وفاة أخيها بسرطان
استشرى في رئتيه حتى تآكلتا وانقطع الاوكسجين عنهما، فحبست نفسها أكثر في ذلك
السجن محاولة التجاهل، محاولة التصرف وكأنها لم تسمع، وأكملت روتين حياتها دون أن
تعترف لأحد، وكأنها تخفي كومة من القشّ في مهبّ الرّيح فيتناثر و تذروه الرّيح
ثانية في وجهها وليس من مهرب، إنه الضياع....
مقابلتها
للموت بالتجاهل كان محيّرًا، تركت بينه وبينها مسافة وأحيانا كانت تتهوّر وتقترب
كثيرا ثم تدفعه بعيدا كما صنعت مع بعض البشر...
سنون مرّت وكم نتغيّر على مرّ السنون!
على مشارف الستين من عمرها وقفت تراقب السماء
الرمادية تنهال بنبال المطر اللؤلؤية وترعد وتزبد وتومض غاضبة كمحارب عتيق، مُخلِّفة
وراءها طميًّا لزجا فيه لمعت تلك الأضواء مجددا، ويبدو أنّها لم تتعلّم الدّرس
فهرعتْ واندفعتْ مُقتربة منها. انطفأت كلها إلا واحدة كانت سعيدة تضحك لها، فجلست
القُرفصاء وراقبتها وابتسمت لأنها لم تنطفئ، وهمست لها: أنت جميلة جدا
أجابت
الدودة: أعرف.
فكَّرتْ
أنها بريئة مع تلك الإجابة الطفولية، فابتسمت وسألتها: لماذا لم تخافي مني
وتنطفئي؟!
قالت
الدودة المضيئة بضحكة بدت خبيثة هذه المرة: لأني أردتك أن تقتربي كثيرا.
بدهشة
وعدم ارتياح سألتها مجددا: لماذا؟
"لأني
أردت التلاعب بمشاعرك " أجابت الدودة وهي تضيء...
كانت
عيناها المُتعبتان منفرجتين لأقصى اتساع مع هذا الجواب الغريب.
قالت
الدودة: اقتربي لا تخافي، المسي ضوئي وتحسّسي جلدي وقرّبيني
من قلبك هناك فوق صدرك...
لم تعد
تستطيع التّعجّب أكثر فكلّ كلمة وكلّ حرف عجيب!
لكنّها
اقتربت وبإصبعها لمست الضوء في ذيلها؛ فأومض ولوّن إصبعها بألوان فوسفورية جميلة
ثم تحسّست جلدها اللزج ورأسها الصغير ودفعتها بإصبع اليد الأخرى فوق يدها وقرَّبتها
من وجهها وتأملتها: كانت مبتسمة ببراءة وعيناها تشعّ بسواد عميق وذيلها ما زال يتوّهج.
همست: هاتان العينان!!!
ارتعشت
كأنّها أصيبت بنوبة صقيع وهي تتأمل السّواد المُشعّ في تِلكُما الحلقتين الصغيرتين كأنّه
الكون، كأنه الفضاء، كأنه ثقب أسود يضيع فيه كل شيء...
قالت
الدودة: قربيني الآن من قلبك.
كأنها
تحت تأثير سحر ما، قربتها وهي تحاول الخروج من سواد عينيها، وفوق قلبها ضمّتها
وبينما كانت تحاول ضمّ أصابعها فوق جسد الدودة الصغير لسحقها، صعقتها الدودة
المضيئة بكهرباء غريبة جعلتها ترتعش وتنتفض وتتقطّع أنفاسها، وتتهافت لسمعها آخر
جملة قبل أن تفارق الحياة: ألم أقل لك سأتلاعب بك ..
هوت
جثة هامدة تتناثر على جبينها خصلات بيضاء، وعيونها مفتوحة أقصى اتساع لها...
الطبيب الشرعي سجّل في تقرير الوفاة:
(السيدة:
س
في
الستين من عمرها وُجدت ميتة نتيجة لصعقة كهربائية عالية التوتر مجهولة المصدر
"Polycirrus" وقد وجد في قبضة يدها دودة
ال
وهي
نوع من الديدان المضيئة غير المؤذية..............)
اِلْتَفَتَ
الطبيب نحو نافذته عندما سكت المطر فجأة ليراقب أضواءً بدأت تتلألأ، ترك القلم
وخرج، انطفأت كلّها إلا واحدة ضحكت له فاقترب منها، ما لبثت أن قالت له:
اقتربْ لا تخفْ، المسْ ضوئي وتَحَسّس
جلدي وقرّبني من قلبك هناك فوق صدرك...