الأحد، 6 أبريل 2025

لا تقترب

 أخ-حب-مضيئة-ديدان-لاتقترب-مسافة-موت-حياة-

لا تقترب




كوَّرَتها بيدها ورمتها " سأرسم بالفحم إذن، يبدو أن الكلمات لا تنفع" همست لنفسها....

ثم كوّرتها ورمتها "سأعود للكتابة، ربما يسعفني عصر الكلمات" همست ثانيةً...

كوّرتها ورمتها بعصبية " أفٍّ لكِ من فاشلة" وبَّخت نفسها ....

تأمّلت كومة الورق المُكوَّر باستسلام ثم استلقت وأغلقت الجفون فبدأت تتلألأ من خلال الشّقّ الصغير في عينيها ظلالٌ من نور ملوّن تحوم أمامها كنجوم، كأضواء الاحتفالات....

تذكّرت عندما كانت طفلة صغيرة وكان المطر يهطل بغزارة في ليلة حالكة السواد، ولما توقف المطر، بدأت تتلألأ في التراب أضواء فوسفورية ظنت لبراءتها وهي تشهق أنها نجوم قد سقطت مع المطر من الفضاء، ليهزّ رأسه أخوها وهو يضحك: إنها ديدان مضيئة يا صغيرتي...

بدا التفسير حينذاك محيّرا أكثر من لو أنّ النجوم سقطت مع المطر، لكن لا يهم، وعادت عيناها لسبر هذا الجمال المهيب من خلف زجاج الباب، لكنّ النظر لم يكفيها فدفعت الباب وخرجت وكلما اقتربت انطفأت الأضواء، فحزنت وجلست القرفصاء تتلّمس التّراب الذي أضحى طميًا لزجًا، وأخرجها صوت أخيها ثانية من أفكارها: ادخلي ستبردين، أخبرتك أنها ديدان وقد خافت أن تؤذيها باقترابك منها...

ابتعدت متمنية أن تعاود هذي المخلوقات التلألؤ، إلا أن هذا لم يحدث، وانتظرت طويلَا خلف الزجاج دون جدوى، وللأسف لم تر هذا المشهد ثانية طوال حياتها.

"لا تقترب فأنطفئ ولن ترى مني إلا الجانب المظلم، رجاء أبقِ مسافة لتراني جميلة وأراك جميلا"، هكذا علمتها الديدان المضيئة...

ترك مسافة لم يكن سهلا، وفي أسوأ الحالات كان الابتعاد بهدوء وصمت هو الحل لمن يحاول اختراق المسافة، وقد يتطلب الأمر صراعا مُرهقا مع بعض الشخصيّات النرجسيّة السّامة التي تنفخ سُمّها حولك فتتخدر وتصدّق أنها تحبّك لحدّ الجنون...لحدّ الاستحواذ ...لحدّ الاختناق...

سنون مرّت وكم نتغير على مرّ السنون!

في ذلك اليوم كانت نظراتها تبدو كأنها منفصلة عن هذا العالم، وهي تقرأ رسالة أخيها:

(أختي الحبيبة:

هل تذكرين صغيرتي تلك الحشرات المضيئة التي ظننتها يوما نجوما هطلت من السماء؟

 قد رأيتهُا منذ فترة وهرعتْ ذكراكِ لقلبي، وتيّقّنتُ كم أفتقدكِ وأتمنى أن أراكِ قريبا، فقد طال غيابك لسنوات مديدة. تخيّلتُ لوهلةٍ أن يجمعنا الموت مع وفاة والدك ثم وفاة أمك، إلا أنّكِ لم تأتِ ولم يستطعْ الموتُ أن يقرّب المسافة، لكن لا بأس لعلّه خير.

أختي! أريد أن أخبرك سرًّا، لقد اقتربتُ من تلك الدّيدان المضيئة وانطفأت كلها إلا واحدة، احزري ماذا؟ قد أكلتها هههههههههه ..

هناك سرّ آخر صغيرتي، أتمنى ألّا تقلقي عليّ فقد دخلت المشفى إثر جلطة دماغية مرّتْ عابرة، والحمد لله أنا اليوم بخير..

كلّ السلام .... أخوك )

كانت آخر رسالة مكتوبة بعد أن اكتسحت تقنيات التواصل الاجتماعي الساحة وزجّت في المتحف الورق والكتابة والمسافات كذلك ...


في هذا اليوم أيضا كانت تبدو نظراتها منفصلة عن العالم حولها فقد رأت حلمًا غريبًا فيه كانت تحاول الهروب من شخص يلاحقها فحبست نفسها في سجن مظلم، واستيقظت وبقيت عالقة في ذلك الحلم فبدت نظراتها تائهة في عالم آخر، ثم سمعت خبر وفاة أخيها بسرطان استشرى في رئتيه حتى تآكلتا وانقطع الاوكسجين عنهما، فحبست نفسها أكثر في ذلك السجن محاولة التجاهل، محاولة التصرف وكأنها لم تسمع، وأكملت روتين حياتها دون أن تعترف لأحد، وكأنها تخفي كومة من القشّ في مهبّ الرّيح فيتناثر و تذروه الرّيح ثانية في وجهها وليس من مهرب، إنه الضياع....

مقابلتها للموت بالتجاهل كان محيّرًا، تركت بينه وبينها مسافة وأحيانا كانت تتهوّر وتقترب كثيرا ثم تدفعه بعيدا كما صنعت مع بعض البشر...

سنون مرّت وكم نتغيّر على مرّ السنون!

 على مشارف الستين من عمرها وقفت تراقب السماء الرمادية تنهال بنبال المطر اللؤلؤية وترعد وتزبد وتومض غاضبة كمحارب عتيق، مُخلِّفة وراءها طميًّا لزجا فيه لمعت تلك الأضواء مجددا، ويبدو أنّها لم تتعلّم الدّرس فهرعتْ واندفعتْ مُقتربة منها. انطفأت كلها إلا واحدة كانت سعيدة تضحك لها، فجلست القُرفصاء وراقبتها وابتسمت لأنها لم تنطفئ، وهمست لها: أنت جميلة جدا

أجابت الدودة: أعرف.

فكَّرتْ أنها بريئة مع تلك الإجابة الطفولية، فابتسمت وسألتها: لماذا لم تخافي مني وتنطفئي؟!

قالت الدودة المضيئة بضحكة بدت خبيثة هذه المرة: لأني أردتك أن تقتربي كثيرا.

بدهشة وعدم ارتياح سألتها مجددا: لماذا؟

"لأني أردت التلاعب بمشاعرك " أجابت الدودة وهي تضيء...

كانت عيناها المُتعبتان منفرجتين لأقصى اتساع مع هذا الجواب الغريب.

قالت الدودة: اقتربي لا تخافي، المسي ضوئي وتحسّسي جلدي وقرّبيني من قلبك هناك فوق صدرك...

لم تعد تستطيع التّعجّب أكثر فكلّ كلمة وكلّ حرف عجيب!

لكنّها اقتربت وبإصبعها لمست الضوء في ذيلها؛ فأومض ولوّن إصبعها بألوان فوسفورية جميلة ثم تحسّست جلدها اللزج ورأسها الصغير ودفعتها بإصبع اليد الأخرى فوق يدها وقرَّبتها من وجهها وتأملتها: كانت مبتسمة ببراءة وعيناها تشعّ بسواد عميق وذيلها ما زال يتوّهج.

 همست: هاتان العينان!!!

ارتعشت كأنّها أصيبت بنوبة صقيع وهي تتأمل السّواد المُشعّ في تِلكُما الحلقتين الصغيرتين كأنّه الكون، كأنه الفضاء، كأنه ثقب أسود يضيع فيه كل شيء...

قالت الدودة: قربيني الآن من قلبك.

كأنها تحت تأثير سحر ما، قربتها وهي تحاول الخروج من سواد عينيها، وفوق قلبها ضمّتها وبينما كانت تحاول ضمّ أصابعها فوق جسد الدودة الصغير لسحقها، صعقتها الدودة المضيئة بكهرباء غريبة جعلتها ترتعش وتنتفض وتتقطّع أنفاسها، وتتهافت لسمعها آخر جملة قبل أن تفارق الحياة: ألم أقل لك سأتلاعب بك ..

هوت جثة هامدة تتناثر على جبينها خصلات بيضاء، وعيونها مفتوحة أقصى اتساع لها...

 الطبيب الشرعي سجّل في تقرير الوفاة:

(السيدة: س

في الستين من عمرها وُجدت ميتة نتيجة لصعقة كهربائية عالية التوتر مجهولة المصدر

 "Polycirrus"   وقد وجد في قبضة يدها دودة ال 

وهي نوع من الديدان المضيئة غير المؤذية..............)

اِلْتَفَتَ الطبيب نحو نافذته عندما سكت المطر فجأة ليراقب أضواءً بدأت تتلألأ، ترك القلم وخرج، انطفأت كلّها إلا واحدة ضحكت له فاقترب منها، ما لبثت أن قالت له:

اقتربْ لا تخفْ، المسْ ضوئي وتَحَسّس جلدي وقرّبني من قلبك هناك فوق صدرك...

 

 ******

نادية محمود العلي 

 

 


الخميس، 30 يناير 2025

عين الحمق





عين الحمق
تحسس انفك.. جرب استكشف تضاريس وجهك وابعاده
مرر اطراف اناملك على صفحة جبينك وفوق وجنتيك وشفتيك ثم توجه نزولا حتى تصل حيث ذقنك...نعم انحدر يمينا قليلا ثم  تم دورة كاملة حولها.
لا بأس.. الان ارتفع مرة اخرى حيث تبيت عينيك، خذ وقتك عزيزي فلدينا المتسع منه، سبر غورهما ولا تبارحهما قبل ان تحصي منهما كل انحناءة وزاوية وخط و تجعيدة ..!
الآن عليك بالمرآة .. قف امامها وتأمل ملامحك جيدا.. حاول ان تحفظها..
افتعل بعض السعادة، الحزن، الحب، البغض، الطمائنينة، الخوف، الحلم، الغضب، الترقب، الامل، الخذلان، اليأس، البؤس...!
دعنا نكتفي بهذا القدر، هل رأيت تباين تقاسيم وتعابير وجهك عبر المشاعر المختلفة..؟
ربما تعجب لما سأخبرك به الان..!
انت لست كما رسمت في مخيلتك، وايضا لست كما بدا لك من خلال المرآة..!
انت كما نراك نحن...
نعم نحن ادرى بك منك.. نحن الاعلم بوجهك وتقاسيمه منك.. نحن من نراك مرارا وتكرارا، صباحا ومساء، هنا وهناك، نراك عن قرب وعن بعد، نرى الهفوات والالتفاتات، و مهمها برعت في كبح مشاعرك او راوغت وحاولت توجيهها على غير ما تكون او حتى لو تركت لها حبل العفوية على غاربه ايضا نحن اعلم بها منك.
فلا تكترث ولا تهتم...
و للعلم هذا ليس لحذاقة فينا او حمق فيك وليعاذ بالله، لكنها سنة الله في خلقه، قضت مشيئته ان يكون اجهل الناس بوجهه هو الانسان نفسه..!
لحظة... لكن هل يحدث ايضا ان نكون اعلم بسريرة احدهم منه..؟
هل يمكن ان نكون ادرى بمكنون روحه منه..؟
لست ادري على محمل التوكيد لكن في حال حدث ذلك فلا 
شك انه هذا هو الحمق بعينه و بذاته..!

نسرين

الثلاثاء، 21 يناير 2025

يا نسرين!

 نور-الشمس-أشعة-حرية-نسرين-كوكب-الأرض-إشارة-

يا نسرين!


صباح خجول بدأ ينثر أشعته اللطيفة رويدا رويدا كأنه يرشق قطراتٍ عذبة فوق شفاه عطشى.

لأوّل مرة أحبُّ الشمس!

لطالما عشقتُ أقطان الغيوم وهي تحجب ضوء الشمس ثم تمتص الرطوبة من الأثير ولا تلبث أن تعصرها طلا أو تنسكب منها وابلا عندما تنوء بحملها، وعشقتُ الرياح عندما تثور عاصفة أو إعصارا وتهز وجه المحيطات موجا هائجا...

كانت صديقتي (نسرين) -التي تعشق الشمس والنور- تسألني دوما مستغربة عن هذا الشغف الكئيب، وكنت دوما أخبرها أن في هذا المشهد هيبة وعظمة من لمسة الخالق؛ لكني في ذلك الصباح تجاوزت بوابة منزلي نحو السيارة، وفجأة أحسست بأشعة الشمس تتسلل إلى خلايا جسدي وتلمس فؤادي فأتنشق الصبح لتتوسع رئتي التي ثقلت من أعباء الهواء الرطب، وتدفئ قلبي الذي برد من هموم الشتاء، ويرتعش عقلي الذي يبس من سكون الأفكار حتى غدا صلدا ثقيلا في تلك الجمجمة الجوفاء ...

ركبت السيارة كالعادة، وكآلة كنت أحفظ الدرب وعند تلك اللفة التي خرجت من زحام الشارع العام إلى طريق فرعي -على جانبيه انسدلت أغصان السدر و احتضنته الجبال بين أكتافها- ابتسم الصباح في عيوني مباشرة سهامَ طاقة وحياة انغرزت في قلبي، فابتسمتُ له....

 تلك الأشعة انطلقت من رحم الشمس خطوطا مستقيمة أو أمواجا -لا فرق- تشع باستمرار حتى في ليل كرتنا الأرضية، تعطي النور للكواكب والأقمار بانعكاسها. أهي حرة؟! أم أنها مقيدة برحم أمها؟؟ أزلية أبدية؟ أم ستنطفئ يوما ما؟

لا أدري ...

تمنيتُ أن أكون مثلها منطلقة، لا عودة لرحم أمي ولا عوائق توقفني، أنعكس أو أنكسر، أغير الزوايا والالتفافات، إلا أني دائما أحلق حرة أعطي وأعطي حتى أنطفأ...

كنت أصغي لأنغام فيروز لكني أطفأت مشغل الموسيقى في سيارتي، احتجت للصمت وتناهى لسمعي ضجيج ممزوج بزقزقة عصافير نسجتْ من أغصان السدر أوطانا لها.

أصغيتُ وأصغيتُ وهُيئ إليّ أن لأشعة الشمس صوتا، سمعته يهمس لي:

"أرأيتِ كلّ السيارات التي تجاوزتك من دون صبر وجعلتك تغيرين المسار وتثورين بعصبية قليلا؟

عند الإشارة الحمراء توقفتم جميعا معا، لم يسبق أحدٌ أحدًا، وعند الضوء الأخضر أسرعوا بجنون ولكن توقفتم مجددا جميعا معا عند الإشارة الحمراء التالية ولم يسبق أحد أحدا، أليس الوقت مجرد اختراع بشري نسبي؟!

 في النهاية ستصلون يا صغيرتي معا. لو كانوا يعلمون"

وتأسفتْ الأشعة على البشر، على طغاة حجبوها عن أسرى وسجناء معتقلين تحت الأرض، حاولتْ بكل قوتها اختراق الطبقات المظلمة ولكن من دون جدوى، حاولت أن تضيء شعلة أطفال ولدوا في الظلام ولم يعرفوا الكلام ولم يُسموا المسميات بأسمائها وربما تعلموا لغة الظلمة والخوف، وأناس ولدوا في النور إلا أن الظلمة ابتلعتهم ونسوا أسماءهم والمُسميات وتوقفوا عن حساب الأيام والوقت....

 أقسمت لي أن بصيصا صغيرا منها كان يتسرب قليلا دون أن يلاحظوه ولم يعط الأمل بيوم جديد لهم لأن وحشية البشر فاقت لطافة الشمس، وعذاب الأسر فاق نشوة حريتها...

 تأسفتْ أشعة الشمس مجددا على كوكب الأرض، إلا أنها عانقتني وقبّلت جلدي و وعدتني بأن شحنتها من النور ستصل كل يوم إلى قلبي، وهمّتْ بالابتعاد عني لكني استوقفتها:

-لا ترحلي!

-اممم!!!

-أريد أن أسمعك

-فهمت...

في رحم أمي الشمس كتلة من جليد مظلم ولدتني، وعندما تنطفئ أمي ستتحول ثقبا أسودا في الفضاء...

الجليد يحرق ويلسع والنار أيضا ...

صغيرتي لا أدري إن كنت تفهمين، بمجرد أن نُخلق فنحن لسنا أحرارا أبدا، وقد يكون غريبا أن أقول لك أن النور والظلام واحد، نعيش في كلتيهما، ولكلٍ منهما طاقة، تعلمي أن تستشعريها وتغربليها وتصطفيها...

-هل تعودين لأمك الشمس أم أنك تتشتتين وتفنين في الفضاء الواسع؟

-أظلّ محلقة، تارة أحنو وتارة أقسو، تارة أنفث نسيما وتارة لهيبا حارقا، لا أفنى، تمتصني المخلوقات أو أتحوّل لطاقة، وتارة يشدني الحنين للعودة إلا أني لا ألتفتُ أبدا، أنت ترين ماضيَّ ومستقبلي يا صديقتي...

-لماذا لا أشعر بالارتباط بمكان أو زمان؟

- لأنك مثلي........


 هذي المرة ابتسمتْ وانطلقتْ دون انتظار لأنّها لا تستطيع التوقف، ابتسمتُ لها ولوحتُ لها وما زال نسيم التفافها يلفح وجهي وأنا بشوق لصباح يوم جديد...

عند الظهيرة لم يعد الصباح خجولا وبات يضرب بسيوف الشمس الحارقة، ولكني سأبقى في الظل أنتظر الصباح التالي بشغف، فلولا الشمس ما كان الظل... ما كان الصباح ...ما كان يوم جديد...

نسرين صديقتي الآن عرفتُ لماذا تحبين الشمس ...

****

نادية محمود العلي  

الأحد، 18 أغسطس 2024

أزهار الظل

 ظل-زهرة-موت-حياة-مطر-حديقة-أشباح-أقران-نوم-

أزهار الظل  



أزهار الظل  

أغلق الستارة جيدا بحيث لم يسمح لأي ضوء أن يتسرب، وأطفأ الأضواء في غرفته استعدادا للنوم، راجيا أن يغوص في سريره ويباغته النوم بضربة قوية حدّ الإغماء فلا يشعر بشيء حتى الصباح..

أرجع رأسه على الوسادة وأغمض عينيه علّه يرى الظلام فقط، منتظرا أن يغوص في قاع النوم دون وعي، ولكن صوت المطر أرغمه على فتح عينيه والاصغاء لضجيج قطراته المتراشقة   على رصيف وإسفلت الشارع، وتسلّلت ظلال الأعمدة والأشجار والأبنية من خلف ستارة النافذة المُحكَمة الإغلاق، وتسربت منها متشابهة لا ملامح لها مثل بيادق الشطرنج، ثم امتدت وانقبضت  فتكورت بقعةً واحدة على الجدار قريبا من السقف ...

بدت البقعة حفرةَ زمنٍ سحيقة تقبع مخاوفنا فيها كوابيسا تلاحقنا، فهزّ رأسه ليطرد أفكاره وظلالها، جلس ثم وقف، تأمّل طويلا ثم اقترب من الجدار وانعكس ظله فوق البقعة، توقف وأمال رأسه فانحنى معه الظل بلا أبعاد بلا زوايا بلا عمق...

تساءل: (أَظِلالنا أشباح؟ أم أقران؟!)

رجع خطوات للوراء فابتعد ظله في الجدار، عاد ليستلقي وعيناه مُسمّرتان في بقعة الظلال التي بدأت تتوّسع وتتشتّت إلى خيوط وأشكال مختلفة تتناثر على الجدران والسقف كلما مرت سيارة في الشارع، في الواقع بدت مثل أشباح تخترق الجدار القابع أمامه بكل سلاسة ثم تتجمد ناظرة إليه...

سرى البرد في أطرافه وارتعش كأنه يتجمد، ولا يدري لمَ تراءت لمخيلته من بين الظلال تلك صورةَ أمه في كفنها الأبيض: فمها وفتحات أنفها محشوة بالقطن ووجهها مقطب الجبين مصفر مثل زهرة "القُرّاص الميت"، تزهر في الظلّ، هناك في الحفرة التي تحتضنها حتى يوم الحشر، ثم تنهض ظلالا مع البشر تمتد وتمتد وهي تنتظر مصيرها...

 تهافتت صورة والده الذي تخَضَّبت شفتيه بالدماء المتدفقة من أحشائه ساعة موته، كزهرة "سوسن جرماني أسود"، رافع الرأس خاضع النظرات، في حفرته تلك يزهر في الظل وسينهض يوما ويمتدّ و يمتدّ مع ظلال الحشر...

وهنا تمايل أمامه ظلُّها، ما زال ملتهبا يشهق الحبّ ويزفر الرّغبة ثم يذوي في حفرته زهرةَ "نرجس برّي "تزهر في الظل، وستنهض يوما من تابوتها لتمتد وتمتد ظلا يتهادى لمصيره بين الحشود...

تسابقت الظلال أمام مخيلته تبتلع على التوالي بدون رحمة صور كلّ من مرّ في حياته مثل أشباح سوداء عملاقة خطت خطوة واحدة سريعة قوية، فكانت دوسة أوّل قدم في المهد والثانية واسعة ممتدة حتى اللحد، وما بين الاثنتين يغشى حلمٌ غامض، لو خرج الأسوأ فينا لكان كابوسا حالك السواد وإلا فإنه ومضات "ديجا فو" تتراءى سريعة كنسيان ينبض ثم يموت في سكون، كحياة أخرى عشناها ثم دفنها الدماغ في الخلايا الرمادية كتابا مُشّفر بشيفرات الظلال...

ظلالٌ تصارع النسيان في غابة الأشباح، حيث نباتات وأزهار الظل تنمو ملتصقة بالتراب تحت جذوع أشجار الظلام الباسقة، ترشف الندى كلّ صباح وتمتد عريشا تُعشّش فيه طفيليات وحشرات وطيور مفروطةٌ ريشاتُ أجنحتها، توالدت أجيالا لا تعرف الطيران وتخبئ بيضها بين الظلال، وتخاف من النور لأنه يعمي بصرها...

 شعر ببرد وألم شديد في أطرافه فغطاها بدثار آخر وبدأ يفركها ببعضها علّه يشعر بالدفء، وأرجع رأسه وهو يئن ليغوص في الوسادة، وكل ما أراده أن ينام...

تسربت من أطراف جفنيه قطرات مالحة دافئة جعلت وجنتيه دافئتين ولكن أطرافه ظلت باردة، وهمس: أريد أن أنام...

أمال رأسه قليلا تجاه الجدار وخُيّل إليه أنه يرى ظل دموعه الحارقة التي لم تستطع أن تدفئ أطرافه...

 أراد أن يغلق جفنيه وينام لكن عينيه ظلت محملقة في الظل هناك تتسرب منها قطرات حارة جدا ما زالت غير قادرة على تدفئة أطرافه...

-أريد أن أنام ...

بردت القطرات وتجمدت على وجنتيه وعيونه ظلت محملقة في الظل على الجدار هناك، مفتوحة جاحظة لم يباغتها النوم بضربة وإنما باغتتها الظلال بنفثات باردة باردة جدا حتى تجمدت الحياة في عروقه وانضمت روحه الى أقرانها على الجدار الذي بدا حديقةً من أزهار الظل..

ولم ينم ....

تُرى أيّ زهرة ظلّ سيكون؟! 

 

 ****

نادية محمود العلي 

السبت، 3 أغسطس 2024

قراءة في رواية العطر

قراءة في رواية العطر



قراءة في رواية العطر


بوسعهم "أن يغمضوا عيونهم أمام ما هو عظيم، أو مروّع أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول، ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق، لأنه شقيق الشهيق. فهو يدخل معه إلى ذواتهم، دون أن يستطيعوا صدّه، إن رغبوا بالبقاء على قيد الحياة، كما أنه يدخل إلى أعماقهم، إلى القلب مباشرة، حيث يتم الفصل الحاسم بين الميل إليه أو احتقاره، بين القرف منه أو الرغبة فيه، بين حبه أو كرهه".

لطالما تساءلت عن الحكمة وراء تحريم تعطر المرأة عند خروجها ، وعن مدى تأثير الروائح في مشاعرنا وتحكمها في سلوكياتنا، حتى وقعت بين يداي مؤخرا رواية العطر التي نحن بصدد الحديث عنها الان، لتعود وتلح على من جديد نفس التساؤلات.

هل هناك رائحة ما بوسعها ان تجعل البشر سعداء واخرى تجعل منهم تعساء، هل يمكن ان ينشر عطر ما روح السلام بين البشر مثلا بينما اخر تندلع على إثره حروب شعواء، هل يؤلف العطر بين القلوب وغيره ينفرها، هل تنزل السكينة او يحل الخوف جراء اثير في الجو....!؟

الى اي حد يمكن ان تتلاعب بنا روائح الاشياء والاشخاص..!؟

لست أدري

 لكن اعرف جيدا ان ثمة رائحة بمقدورها ان تحملني الى زمان ومكان قد مضى..!


رواية العطر هي رواية تعج بالروائح المتباينة و سأحاول ان اتناول الرواية بايجاز شمولي او اسهاب مقتضب لست ادري حقيقة، بل وربما ايضا اعود لها ثم منها مرارا وتكرارا ، لانها في نظري بئر عميقة لا يمل ابدا الاغتراف منها بيد انها لا تنضب.


روايتنا اليوم من هذا النوع الذي ما ان اجتمعت به لا تترك لك المجال من المغادرة دون الانتهاء منها، بل وبعد الانتهاء من قراءتها، تظل تسكن تفكيرك وتراودك تعبث هنا وهناك ثم تبعث رسائل ورؤى .

الرواية مصنفة تحت بند أدب التراجم وهي للكاتب الالماني باتريك زوسكيند وترجمها للعربية الرائع نبيل الحفار


تحمل النسخة المترجمة من الروية الكثير والكثير من البهاء والسخاء في عرض الافكار وتجسيد المواقف وتوصيف المشاعر بشكل ادبي غاية في الروعة والاتقان مما يقودك وبلا شك لمتعة جمة.

الانتقال بين جنبات الرواية سواء صفحاتها واحداثها هو انتقال رشيق وشيق للغاية لا ينتابك خلاله غير مشاعر الحماس والاستمتاع.

الرواية تلقي الضوء على حقبة زمنية عاشتها عاصمة الموضة والفنون والجمال، فينتج عن ذلك ان يعيد القارئ تقيمه وحكمه على بعض الذي ظنناه دائما مسلمات وبديهيات وبالتالي التخلص من عقدة الخواجة والتأكد من انه ليس كل ما يلمع ذهبا بل ربما يكون محض سراب..!

على هامش الرواية سمعت نميمة تهمس من بعضهن مفادها ان ارقى العطور الفرنسية واكثرها ثباتا كانت بالكاد محاولة لدحض وطمس الرائحة القذرة لباريس..!

هذا ما سمعت والعهدة على الراوي ... لا بأس لا يعنيني البتة، زجاجة ديور على سبيل المثال لا الحصر تعد من اعظم كنوزي ومقتنياتي الشخصية..!!!

كان لي الكثير من الوقفات شعرت خلالها بمشاعر متضاربة على غرار الشفقة و التشفي، الضحك والبكاء، الاشتهاء والاشمئزاز، وما الى ذاك من التضاد....

لا انتوي فض ستر الرواية ولكن سوف اعرض رؤيتي الخاصة لها مع توصية بقرائتها لانها تجربة ثرية وبجدارة تستحق الاطلاع.


الرواية تستعرض اوضاع أولئك الذين لا يؤمنون بسوى الملموس والمحسوس من الأمور ودونما ذلك لا تترجمه عقولهم ولا تراه عيونهم ولا يستشعروه بالمرة .

هم ربما يكونون غير مؤذيين بطبيعتهم وان خلفوا من خلفهم كوارث دون وعي او رغبة منهم.

هم منشغلون فقط بالسعي المجد الدؤوب لتلبية حاجات حواسهم المحسوسة الملموسة وفيما عدى ذلك لا يقرون ولو اجتمع سائر الخلق على ثبوت الشيء.


المشاعر بحلوها ومرها، الروحانيات بكل ما تشمل من عقائد ويقين وطقوس، الصفات الممدوح منها او المذموم لا يستشعروه بالمرة.

هم مجردون على حد سواء من لوم الذات او الفخر بها اذ انهم فارغين مجوفين من الذات، هم بلا ذات ان صح التعبير، لا يحبون بيد انهم لا يكرهون ايضا، هم فقط يحتاجون ويسيرون على درب واضح جلي يسكن في نهايته قضاء حاجتهم ولا يعنيهم بالمرة مدى استقامة او يسر الدرب ، جل ما يعنيهم هو الغاية منه.

ماذا بعد...!

ماذا بعد ان ينهلون ثم ينهلون المزيد ثم المزيد من كل ما هو محسوس وملموس..!؟

هل تشبع الاذن، العين ،الانف ، الاطراف هل تكتفي من زخم اللمس يا ترى ، هل تمتلئ البطون حد الاكتفاء ، هل يوما ما ستصل الفروج الى ذروة ذرو المتعة فتكف وتعف ...!؟

هل وهل ..... ثم هل وهل

هل من روح تشبع ، هل من ذات تقنع ، هل من نفس تضع حدا لغول المحسوس والملموس الجشع الشره الذي لا ولن يشبع ابدا...!


الله وحده الذي وسع كل شيء علما ،الخالق البارئ المصور ، الذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور

هو فقط من يضع عندها حدا لنزيف الرغبة و الاشتهاء بقوته وجبروته

الآن سواء عن قصد أو بدون ، قد امتلك بطل الرواية القدرة على التحكم بكل شيء،  وبلغ من القوة والسيطرة اكبر مدى لكن للاسف هو لا يملك ذات

ترى ماذا يفيد ان امتلك الانسان الكون وهو لا يملك ذات


نخلص إلى أنه يكمن جوهر الانسانية في درء هوى النفس ومجاهدة وتقويم ميلها ،إذ تكتسب الذات قيمتها ويتجسد وجودها بل وتسمو ويتشكل كيانها بناء على مدى مقاومة الرغبات والغرائز والاحتياجات وتأطيرها وتقنينها في القنوات التي تقرها الشرائع والاخلاق.

وعندما تنكشف تلك القيم جلية مع تتابع الاحداث وتصاعدها، و هنا بالتحديد في مشهد مهيب يدرك بطلنا الوجه القبيح للشهوانية القميئة والذي لم يكن في حسبانه على مدى احداث الرواية لكنه اصطدم به رغم كونه ردة فعل طبيعية لسيطرة الحواس على البشر .

فنصل الى نهاية رحلتنا عندما يميع معنى الحياة في عيون بطل الرواية فتصبح الحياة والموت سيان في وجدانه ، بل يحدث حتى ان تستحيل الحياة وتتحول لعبء ينشد منه الخلاص بالموت ، او هذا ما قد كان عندما تلاشى البطل في نفس مكان نشأته الاولى وبطريقة لا تقل عنها ايضا غرابة ووحشية، ليسدل الستار وكلنا يقين ان حياة هوى النفس وضيعة رتيبة جوفاء من اي معنى او قيمة بينما ترقى الذات بحروبها وانتصارتها وان كانت هي الخصم والحكم ..!!!

****


نسرين مصطفى

الخميس، 18 أبريل 2024

نعمة أم نقمة؟!

عجز-مكتسب-فيل-عاصفة-قيد-سجن-وقت-آريز-عدو-سجان-مطرحرية-

نعمة أم نقمة ؟!


في عينيها كان الصمت والصخب، النور والظلام، الشهوة والزهد، الأمل واليأس، الفضيلة والرذيلة، البراءة والتلاعب، الحكمة والجنون، وكان فيهما الحب لكن من دون الكره، وهذه كانت ميزتها...

أكانت عيناها نعمة أم نقمة؟!

مشت مرفوعة الرأس كظافر، مفتوحة الصدر كمحارب، رشيقة القوام كأنثى كاملة، ينضح جسدها بالثورة وتفيض محيطات الحب في عيونها؛ فكان يراه الرجال رغبة وشهوة، وتراه النساء أنوثة وتواضعا، ويراه الأطفال حبا ولطافة، والشيوخ يرونه كرما ورحمة، باختصار كانت محبوبة الجميع...

لا أعداء؟!

بالطبع دوما هناك عدّو ولو قلّ عديده؛ لكن عدوها كان يُهزم لأنها محاطة بمحبة ودعم الجميع ...

لم تكن تعلم أن لميزتها تلك القوة، قوة هائلة حتى لتغير العالم من حولها...

يمكنها التلاعب بمشاعر الآخرين لكنها لا تفعل، هذا سيعطي ميزتها قوة أكبر لأنها تزيدها تواضعا وصدقا وبالتالي حبا...

تتعب أحيانا لأنها بشر لكنها حتى في تعبها معطاءة...

لم تكن ملاكا فلا وجود للملائكة على الأرض، ولم تكن شيطانة فالشياطين لا تتلبس الحب، ولم تكن قوية محنكة إلا أنّ ضعفها هو قوتها وحنكتها في حدسها الذي لا يخطئ....

وكانت تعرف متى تنسحب ومتى تبادر، متى تصدق ومتى تكذب، متى تكون قديسة ومتى تكون مذنبة إلى أن حدث ما حدث....

عدوُّ أناني ومتملك وقع في حبها وأقسم أن يمتلكها، فتبعها في كل خطوة منتظرا أن يصطادها كلبؤة أو ربما كفراشة، فقد كان يراها قوية ملكة كاللبؤة ولطيفة جميلة رقيقة كالفراشة، والاثنتين اصطيادهما صعب...إذن؟؟؟؟

فكر وفكر ثم عبس وبسر ثم انفرجت أساريره عندما قرّر أن يصطادها بسلاحها " الحب".

لم تكن تعلم أن العدو يمكن أن يعطي الحب، فوقعت في فخه كفراشة رقيقة ثم حاولت أن تلوذ بالفرار كلبؤة جريحة، ولكن عبثا...

عدوّها وصيادها أعطاها الحب والاهتمام لكنه حاول ترويضها بالقسوة والتملك والأنانية، غللها بالأصفاد وربط عنقها بطوق ضيق...

 صفعها أحيانا وأحيانا قبّل خديها، قصّ جناحيها ثم تحداها أن تطير، ضربها بالسوط ثم حاول مداوة جروحها، استعبدها ثم نزل عند قدميها يقبلهما، اغتصبها ثم طلب منها أن تبقى عذراء شريفة، أطفأ جذوة الحب في عينيها ثم سألها الحب والطاعة...

عيّن العدو عليها سجانا يراقبها ليلا ونهارا، وتوسّلت إلي السجان أن يجعلها تهرب من زنزانة عدوها ولكنه كان صامتا دوما، يجلس القرفصاء بعيدا يراقبها من بين قضبان باب سجنها، يبتسم تارة وتارة يعبس، يقدم لها كل ما تحتاجه، ويربت على يدها في كل مرة، وفي كل مرة تمسك بيده  وتستجديه أن يفتح لها السجن...

رويدا رويدا توقفت عن الاستجداء، وفي ذات ليلة كانت فيها الريح تصفق كل شي مسطح وتصفر في كل شيء مجوف وتهز كل شي واقف له جذور وتحمل معها كل ما هو يتدحرج أو هشا، حملت طبشورا عتيقا وبدأت ترسم فيها على جدار زنزانتها رياحا غاضبة بوجه مخيف وبشريّا مقوس الظهر يبتسم ابتسامة شريرة ويقطر من يديه الدم قطرات صنعت بركة تحت قدميه، واسترقت نظرة لسجانها الذي بدا غير مهتم إلا أنها بدأت تحكي فجأة حكاية فقالت:

كان ياما كان، رياح لطيفة هادئة تتجول يوميا في البراري وهي تعزف نايًّا كان كل من يسمعه يغرق في نشوة الفرح والأمان، ولم تكن تغضب أبدا لأن مهمتها نشر السعادة والسلام بين المخلوقات، حتى جاء اليوم الذي اصطدمت فيه برجل تقطر من يديه الدماء لأنه يرتكب المعاصي ويقتل الأبرياء ويسعى في الأرض فسادا. عزفت له الريح ودغدغته وحاولت طويلا أن تغيره إلا أنه استمر بسفك الدماء والتمادي حتى غضبت الريح وقررت أن تعاقبه فكانت أول عاصفة في التاريخ، صفقت ظهره حتى تحدب، ونفخت في أذنيه حتى صُمّ، ودحرجته حتى طار ثم رمته على الصخور حتى تهشم وألقمته للمحيط ليبتلعه في أحشائه المظلمة، ومنذ ذلك الوقت كلما ارتكب أحدهم إثما ولم يرتدع تهبّ العاصفة وتقتلعه.

استرقت النظر بطرف عينيها إلا أن السجّان لم يحرك ساكنا...

 لم تكن واثقة إن كان يصغي إلا أن ذلك خفف من وحدتها ومن خوفها، وصارت تحكي في كل ليلة حكاية وترسم على جدران زنزانتها لوحة لكل قصة، كان السجان يتأمل في كل مرة طويلا رسمتها وكانت تلاحظ بصعوبة ابتسامة مخفية في عينيه وفي زاوية شفتيه...

تكرر كل شيء بصورة أو بأخرى وصار روتينا اعتاده الاثنان، ورابطة خفية انعقدت بين الطرفين مع العشرة والسنون حتى جاء ذلك اليوم الذي نطق فيه سجانها لأول مرة...

كانت ليلة دعجاء عاصفة، نبالٌ من المطر انهالت من جعبة السماء وقذفتها الريح الهوجاء لتضرب الأبواب والنوافذ والأرصفة وتلوي الأشجار كأنها تشدها من شعرها حد الاقتلاع، ويبرق الضوء ثم يدوي الرعد كزمجرة وحشٍ هائج، وفجأة دُفع الباب الخارجي ورشقت الرياح قطرات المطر كحبات اللؤلؤ من خلال قضبان باب السجن، ثم نفخت شعرها الأسود للوراء وتطاير ثوبها فوق جسدها الناعم المُعذب فبدت كأميرة في حكايات الأجداد، ومن وراء درفتي الباب الخارجي ولج جسد مفتول العضلات مبلول الثياب وبزنديه حاول بصعوبة إغلاق الباب في وجه الريح ، ثم التفت إليها وفي عينيه إصرار غريب متجها نحوها تضيء قسمات وجهه الجدّي مع كل ومضة برق، وبالكاد عرفته ، إنه سجانها الذي عيّنه عدوها عليها...

همس -ولأول مرة تسمع صوته حتى ظنته أخرسا-: سأحكي لك اليوم أنا حكاية ...

ابتسمت فتابع دون أن ينتظر إجابة:

-كان يا ما كان، كان هناك فيل صغير جدا أخذوه من أمه عنوة وهو يرضع، ربطوا إحدى قدميه بحبل قوي جدا وأبقوه في السيرك عندهم يدربونه ويضربونه تارة وتارة يكافئونه حتى اعتاد أن يتصرف كما يريدون، وكبر فيل السيرك الصغير وهو مربوط بنفس الحبل لكنه أصبح فيلا ضخما لو شد رجله لانقطع الحبل بسهولة واستطاع الهرب، ولكن هل تعرفين ماذا جرى؟!

حدّقت فيه طويلا مستغربة، وحدق فيها بعينين مفتوحتين حد الانفراج ونظراته كانت كرشقات تلك الريح عندما اندفعت من خلف الباب، تابع:

-حسنا ذلك الفيل لم يكسر قيده ولم يقطع حبله الهشّ بل اعتاد الأسر والسجن والاستعباد وظن أنه غير قادر لأنه اُسْتعبِد منذ طفولته، واستشرى العجز في تفكيره.

سكت السجان وابتعد قليلا وجلس القرفصاء كعادته يراقبها، وهي ظلت جامدة تحدّق فيه طويلا، ثم أطرقت ثم حملت طبشورتها ورسمت على الجدار فيلا صغيرا مربوطا بحبل، ثم فيلا كبيرا قطع الحبل وصاحت به: هيه! انظر يا صديقي!

تأمّل الرسم كعادته وهذه المرة لم يخفِ ابتسامته، فنظرت إليه بحبّ، ومدَّتْ يدها بخوف وفتحت باب زنزانتها الذي لم يكن مغلقا أبدا، فأصدر أنينا صدئا وهو يُفتح...

لأول مرة وقفت أمام سجانها وجها لوجه دون حاجز، وكانت ملابسه المبللة من المطر قد رشحت البلل حتى عظامه وبدأ يرتجف من البرد، وبرق البرق وأضاء وجهه الذي ما زال مبتسما، ولاحظت بضع شعرات بيضاء على مفرق شعره وصدغيه، ثم عانقته بقوة حتى سحبت البرد من عظامه وأشعلت جذوة نار لتدفئته، وهمّت بالخروج ببطء شديد فأوقفها:

-هييه! قد تضربك العاصفة!

-اطمئن لن تضرب إلا الخاطئين.

ولمع البرق في تلك اللحظة ورآها كلوحة من رسوماتها على ذلك الجدار، وهي تلتفت لتتجه نحو العالم الخارجي:

 انسدل شعرها الأسود على كتفها وعيناها كانتا مضيئتين كنجمتين، ولاحظ وسوم القيد على كاحلها  ورسغها، وقد شدت قبضتها بقوة كأنها مُقدمة على معركة، فبدت كآلهة الحرب " آريز".

  خرجت ببطء كطفل يخطو لأول مرة وما لبثت الريح تدفعها دفعا حتى بدأت تركض...

لقد مرّت سنون الأسر كتلك العاصفة، سريعة مدمرة، ثم سكنت العاصفة وهربت من عدوها وسجانها وجلادها...

ما زال أنين الريح يضرب في أذنيها وما زالت دوامة الإعصار تتقاذفها وما زال أثر قيدها يطوّقها...

كيف يمكن النسيان!!!

النسيان يحتاج وقتا، وإصلاح ما دمرته العاصفة يحتاج وقتا ولكن هل يمكن للوقت أن يصلح ما أفسده الزمن في نفوسنا؟!

ثانية مشت مرفوعة الرأس كظافر هارب، مفتوحة الصدر كمحارب مخضرم، رشيقة القوام كأنثى ناضجة، ينضح جسدها بآثار القيود وتفيض عيونها بظلال سوداء كموجات المحيط في الليالي المظلمة؛ فكان يراه الرجال ضعف أنثوي مغري، وتراه النساء قوة وتواضعا، ويراه الأطفال مثيرا للاهتمام وفضوليا، والشيوخ يرونه غموضا ولطفا، وباختصار ظلت محبوبة الجميع، إلا أنها خائفة من عدوّ يتربص بها ووقت ينفد قبل أن تلملم شتات ذاتها. ...

همست وهدب الجفون تحاول أن تمنع فيض موجات المحيط الأسود من عينيها:

-صديقي السجان! حتى لو هرب الفيل كيف سيقطع الحبال التي انعقدت داخله متشابكة كشبكة معقدة استشرت في عروق قلبه وعصبونات دماغه، فأصابت قلبه بسكتة المشاعر ودماغه بجلطة العجز عن التفكير؟!

توسعت عيناها بذهول وهي تسمع صوتا يجيبها:

-ماذا عن الروح؟ الروح حرة وطاقتها جارفة، حرريها من أسرها...

  تكاد تقسم أن الصوت صوت صديقها السّجّان...

 

 ****

 نادية محمود العلي 

 

 

 

 

 

السبت، 27 يناير 2024

مشاعر معدنية

 ارتباط-جماد-حنين-ذكرى-معدنية-صديقة-قهوة-خطو


مشاعر معدنية 



أجفاني تنفرج ببطء ثم تنغلق ببطء وكأنها تمسح الغشاوة عن ملتحمة عيني المُغبشة بدموع مخنوقة انعكست فيها خيوط قهوتي السوداء التي تركت آثارها في قعر فنجاني الأبيض ...

 تأمّلتُ تلك الخطوط السوداء طويلا وهي تنحني وتنثني وتتلوّى في داخل الفنجان راسمة أنماطا وأشكالا أتوهمها ما أشاء، ترسم ضعفي ...ترسم قوتي ...ترسم حزني وفرحي ...تتفنن برسم رغباتي ثم خيبة أملي ....

أغلق الجفون مرة أخرى ببطء إغلاقة طويلة وكأن الأهداب تكنس الديمة المنهمرة إلى قناة الدمع في الزاوية وتجبرها على العودة إلى مجراها.... أتساءل:

لمَ نرتبط بالجماد كارتباطنا بالأحياء؟!

لمَ نجد صعوبة في التخلي عن أشيائنا؟!

لمَ نحزن عندما نفارق أرضا أو منزلا؟!

أ لأنّ دماغنا يربط المشاعر مع الأشياء المادية بطريقة الذكرى والحنين؟!

سأسرق الوقت وسأحكي لنفسي ولك تلك القصة عن صغيرة اشتريتها صدفة، في الواقع كانت صغيرة الحجم، عتيقة العمر، بسيطة جدا وأصيلة جدا ومعدنية جدا ...

سرنا أنا وهي ساعات في كل يوم ملتحمين معا، نقطع الدروب معا، نقتحم السراب على الإسفلت، و تلفحنا رياح الصيف والشتاء، وتبللنا قطرات الندى في باكورة الصباح، يرشقنا المطر وتحرقنا أشعة الشمس، تداعبنا انكسارات الشمس الغاربة وهي تنسلّ متعبة خلف الجبال الباسقة ثم يسدل علينا الليل وشاحه الأسود الموشى بنجوم لامعة، نصغي لأنغام الموسيقا الصاخبة تارة والهادئة تارة، وقد التحمت أصابعي مع مقودها المدّور وأزرارها وإشاراتها.

  كانت تصغي لي دون أن تحاكمني ودون أن تقاطعني، حضنت  دمعتي وابتسامتي وسري، استوعبت هدوئي وغضبي، وثقت بي تلك الصغيرة، وكانت تنتظرني دوما دون حراك في البرد والحرارة والعواصف الهوجاء، وأنا ... أنا خذلتها مرتين...

لكني في المرة الأخيرة لن أنساها في ساحة الخردة تنتظرني وحيدةً محطمةَ الجانب مكسورة الأذرع، مهشمة النوافذ، مشروخة الهيكل والروح، وكنتُ جبانة جدا حتى من أن أقترب منها وأودعها مع أنني سمعتها تسامحني، همستْ لي: "أنا خائفة عليكِ " ثم أخبرتني أنها لا تلومني فكلنا نرتكب أخطاء...

لم تطلب مني حتى مبرّرات لفعلتي وخطأي، في وقتٍ تعبتُ فيه من التبرير -وأنا بريئة- لأقرب المقرّبين...

 وإن كان يعزّي تلك الصغيرة المعدنية أني كنتُ ضعيفة أيضا مثلها، مكسورة الجناح، وذهني مشوش، محبوسة روحي في جسدي متمنية التحرر، وفي الليل أتقلّب متألمة وأستيقظ وكأن يدا تغرز خنجرا في كتفي عميقا مخترقا العظم حتى الظهر، تطعنه بقوة باسمة وهي تذرو بأصابعها الملح على الجرح ...

كان لي الخيار، واخترت التخلي عن صديقتي الصغيرة دون حتى أن أربت على كتفها وأواسيها أو أشكرها وأخبرها أنها كانت صديقتي الوفية المعطاءة وكنتُ صديقة أنانية وغاضبة لدرجة أن أستغني عنها ولا أقدم لها المساعدة بأن أصلحها وأسترجعها، وألا أبيعها للغرباء ...

والآن مسافات شاسعة تفصلنا، وترسل لي هدية تأمينها...

هل تسامحني هي؟ هل تسامحني أنت؟ هل أسامح أنا؟!

تبًا هل يمكن أن نعود يوما لنصلح أخطاءنا!!!

ها أنا أحتسي آخر رشفة من إدماني، وخطوط قهوتي هذه المرة لن تظهر لأني شربتها في فنجان أسود و وأدتُها في وحل أسود...

 

 *****

 نادية محمود العلي