الأحد، 6 أبريل 2025

لا تقترب

 أخ-حب-مضيئة-ديدان-لاتقترب-مسافة-موت-حياة-

لا تقترب




كوَّرَتها بيدها ورمتها " سأرسم بالفحم إذن، يبدو أن الكلمات لا تنفع" همست لنفسها....

ثم كوّرتها ورمتها "سأعود للكتابة، ربما يسعفني عصر الكلمات" همست ثانيةً...

كوّرتها ورمتها بعصبية " أفٍّ لكِ من فاشلة" وبَّخت نفسها ....

تأمّلت كومة الورق المُكوَّر باستسلام ثم استلقت وأغلقت الجفون فبدأت تتلألأ من خلال الشّقّ الصغير في عينيها ظلالٌ من نور ملوّن تحوم أمامها كنجوم، كأضواء الاحتفالات....

تذكّرت عندما كانت طفلة صغيرة وكان المطر يهطل بغزارة في ليلة حالكة السواد، ولما توقف المطر، بدأت تتلألأ في التراب أضواء فوسفورية ظنت لبراءتها وهي تشهق أنها نجوم قد سقطت مع المطر من الفضاء، ليهزّ رأسه أخوها وهو يضحك: إنها ديدان مضيئة يا صغيرتي...

بدا التفسير حينذاك محيّرا أكثر من لو أنّ النجوم سقطت مع المطر، لكن لا يهم، وعادت عيناها لسبر هذا الجمال المهيب من خلف زجاج الباب، لكنّ النظر لم يكفيها فدفعت الباب وخرجت وكلما اقتربت انطفأت الأضواء، فحزنت وجلست القرفصاء تتلّمس التّراب الذي أضحى طميًا لزجًا، وأخرجها صوت أخيها ثانية من أفكارها: ادخلي ستبردين، أخبرتك أنها ديدان وقد خافت أن تؤذيها باقترابك منها...

ابتعدت متمنية أن تعاود هذي المخلوقات التلألؤ، إلا أن هذا لم يحدث، وانتظرت طويلَا خلف الزجاج دون جدوى، وللأسف لم تر هذا المشهد ثانية طوال حياتها.

"لا تقترب فأنطفئ ولن ترى مني إلا الجانب المظلم، رجاء أبقِ مسافة لتراني جميلة وأراك جميلا"، هكذا علمتها الديدان المضيئة...

ترك مسافة لم يكن سهلا، وفي أسوأ الحالات كان الابتعاد بهدوء وصمت هو الحل لمن يحاول اختراق المسافة، وقد يتطلب الأمر صراعا مُرهقا مع بعض الشخصيّات النرجسيّة السّامة التي تنفخ سُمّها حولك فتتخدر وتصدّق أنها تحبّك لحدّ الجنون...لحدّ الاستحواذ ...لحدّ الاختناق...

سنون مرّت وكم نتغير على مرّ السنون!

في ذلك اليوم كانت نظراتها تبدو كأنها منفصلة عن هذا العالم، وهي تقرأ رسالة أخيها:

(أختي الحبيبة:

هل تذكرين صغيرتي تلك الحشرات المضيئة التي ظننتها يوما نجوما هطلت من السماء؟

 قد رأيتهُا منذ فترة وهرعتْ ذكراكِ لقلبي، وتيّقّنتُ كم أفتقدكِ وأتمنى أن أراكِ قريبا، فقد طال غيابك لسنوات مديدة. تخيّلتُ لوهلةٍ أن يجمعنا الموت مع وفاة والدك ثم وفاة أمك، إلا أنّكِ لم تأتِ ولم يستطعْ الموتُ أن يقرّب المسافة، لكن لا بأس لعلّه خير.

أختي! أريد أن أخبرك سرًّا، لقد اقتربتُ من تلك الدّيدان المضيئة وانطفأت كلها إلا واحدة، احزري ماذا؟ قد أكلتها هههههههههه ..

هناك سرّ آخر صغيرتي، أتمنى ألّا تقلقي عليّ فقد دخلت المشفى إثر جلطة دماغية مرّتْ عابرة، والحمد لله أنا اليوم بخير..

كلّ السلام .... أخوك )

كانت آخر رسالة مكتوبة بعد أن اكتسحت تقنيات التواصل الاجتماعي الساحة وزجّت في المتحف الورق والكتابة والمسافات كذلك ...


في هذا اليوم أيضا كانت تبدو نظراتها منفصلة عن العالم حولها فقد رأت حلمًا غريبًا فيه كانت تحاول الهروب من شخص يلاحقها فحبست نفسها في سجن مظلم، واستيقظت وبقيت عالقة في ذلك الحلم فبدت نظراتها تائهة في عالم آخر، ثم سمعت خبر وفاة أخيها بسرطان استشرى في رئتيه حتى تآكلتا وانقطع الاوكسجين عنهما، فحبست نفسها أكثر في ذلك السجن محاولة التجاهل، محاولة التصرف وكأنها لم تسمع، وأكملت روتين حياتها دون أن تعترف لأحد، وكأنها تخفي كومة من القشّ في مهبّ الرّيح فيتناثر و تذروه الرّيح ثانية في وجهها وليس من مهرب، إنه الضياع....

مقابلتها للموت بالتجاهل كان محيّرًا، تركت بينه وبينها مسافة وأحيانا كانت تتهوّر وتقترب كثيرا ثم تدفعه بعيدا كما صنعت مع بعض البشر...

سنون مرّت وكم نتغيّر على مرّ السنون!

 على مشارف الستين من عمرها وقفت تراقب السماء الرمادية تنهال بنبال المطر اللؤلؤية وترعد وتزبد وتومض غاضبة كمحارب عتيق، مُخلِّفة وراءها طميًّا لزجا فيه لمعت تلك الأضواء مجددا، ويبدو أنّها لم تتعلّم الدّرس فهرعتْ واندفعتْ مُقتربة منها. انطفأت كلها إلا واحدة كانت سعيدة تضحك لها، فجلست القُرفصاء وراقبتها وابتسمت لأنها لم تنطفئ، وهمست لها: أنت جميلة جدا

أجابت الدودة: أعرف.

فكَّرتْ أنها بريئة مع تلك الإجابة الطفولية، فابتسمت وسألتها: لماذا لم تخافي مني وتنطفئي؟!

قالت الدودة المضيئة بضحكة بدت خبيثة هذه المرة: لأني أردتك أن تقتربي كثيرا.

بدهشة وعدم ارتياح سألتها مجددا: لماذا؟

"لأني أردت التلاعب بمشاعرك " أجابت الدودة وهي تضيء...

كانت عيناها المُتعبتان منفرجتين لأقصى اتساع مع هذا الجواب الغريب.

قالت الدودة: اقتربي لا تخافي، المسي ضوئي وتحسّسي جلدي وقرّبيني من قلبك هناك فوق صدرك...

لم تعد تستطيع التّعجّب أكثر فكلّ كلمة وكلّ حرف عجيب!

لكنّها اقتربت وبإصبعها لمست الضوء في ذيلها؛ فأومض ولوّن إصبعها بألوان فوسفورية جميلة ثم تحسّست جلدها اللزج ورأسها الصغير ودفعتها بإصبع اليد الأخرى فوق يدها وقرَّبتها من وجهها وتأملتها: كانت مبتسمة ببراءة وعيناها تشعّ بسواد عميق وذيلها ما زال يتوّهج.

 همست: هاتان العينان!!!

ارتعشت كأنّها أصيبت بنوبة صقيع وهي تتأمل السّواد المُشعّ في تِلكُما الحلقتين الصغيرتين كأنّه الكون، كأنه الفضاء، كأنه ثقب أسود يضيع فيه كل شيء...

قالت الدودة: قربيني الآن من قلبك.

كأنها تحت تأثير سحر ما، قربتها وهي تحاول الخروج من سواد عينيها، وفوق قلبها ضمّتها وبينما كانت تحاول ضمّ أصابعها فوق جسد الدودة الصغير لسحقها، صعقتها الدودة المضيئة بكهرباء غريبة جعلتها ترتعش وتنتفض وتتقطّع أنفاسها، وتتهافت لسمعها آخر جملة قبل أن تفارق الحياة: ألم أقل لك سأتلاعب بك ..

هوت جثة هامدة تتناثر على جبينها خصلات بيضاء، وعيونها مفتوحة أقصى اتساع لها...

 الطبيب الشرعي سجّل في تقرير الوفاة:

(السيدة: س

في الستين من عمرها وُجدت ميتة نتيجة لصعقة كهربائية عالية التوتر مجهولة المصدر

    وقد وجد في قبضة يدها دودة ال "Polycirrus"

وهي نوع من الديدان المضيئة غير المؤذية..............)

اِلْتَفَتَ الطبيب نحو نافذته عندما سكت المطر فجأة ليراقب أضواءً بدأت تتلألأ، ترك القلم وخرج، انطفأت كلّها إلا واحدة ضحكت له فاقترب منها، ما لبثت أن قالت له:

اقتربْ لا تخفْ، المسْ ضوئي وتَحَسّس جلدي وقرّبني من قلبك هناك فوق صدرك...

 

 ******

نادية محمود العلي 

 

 


الخميس، 30 يناير 2025

عين الحمق





عين الحمق
تحسس انفك.. جرب استكشف تضاريس وجهك وابعاده
مرر اطراف اناملك على صفحة جبينك وفوق وجنتيك وشفتيك ثم توجه نزولا حتى تصل حيث ذقنك...نعم انحدر يمينا قليلا ثم  تم دورة كاملة حولها.
لا بأس.. الان ارتفع مرة اخرى حيث تبيت عينيك، خذ وقتك عزيزي فلدينا المتسع منه، سبر غورهما ولا تبارحهما قبل ان تحصي منهما كل انحناءة وزاوية وخط و تجعيدة ..!
الآن عليك بالمرآة .. قف امامها وتأمل ملامحك جيدا.. حاول ان تحفظها..
افتعل بعض السعادة، الحزن، الحب، البغض، الطمائنينة، الخوف، الحلم، الغضب، الترقب، الامل، الخذلان، اليأس، البؤس...!
دعنا نكتفي بهذا القدر، هل رأيت تباين تقاسيم وتعابير وجهك عبر المشاعر المختلفة..؟
ربما تعجب لما سأخبرك به الان..!
انت لست كما رسمت في مخيلتك، وايضا لست كما بدا لك من خلال المرآة..!
انت كما نراك نحن...
نعم نحن ادرى بك منك.. نحن الاعلم بوجهك وتقاسيمه منك.. نحن من نراك مرارا وتكرارا، صباحا ومساء، هنا وهناك، نراك عن قرب وعن بعد، نرى الهفوات والالتفاتات، و مهمها برعت في كبح مشاعرك او راوغت وحاولت توجيهها على غير ما تكون او حتى لو تركت لها حبل العفوية على غاربه ايضا نحن اعلم بها منك.
فلا تكترث ولا تهتم...
و للعلم هذا ليس لحذاقة فينا او حمق فيك وليعاذ بالله، لكنها سنة الله في خلقه، قضت مشيئته ان يكون اجهل الناس بوجهه هو الانسان نفسه..!
لحظة... لكن هل يحدث ايضا ان نكون اعلم بسريرة احدهم منه..؟
هل يمكن ان نكون ادرى بمكنون روحه منه..؟
لست ادري على محمل التوكيد لكن في حال حدث ذلك فلا 
شك انه هذا هو الحمق بعينه و بذاته..!

نسرين

الثلاثاء، 21 يناير 2025

يا نسرين!

 نور-الشمس-أشعة-حرية-نسرين-كوكب-الأرض-إشارة-

يا نسرين!


صباح خجول بدأ ينثر أشعته اللطيفة رويدا رويدا كأنه يرشق قطراتٍ عذبة فوق شفاه عطشى.

لأوّل مرة أحبُّ الشمس!

لطالما عشقتُ أقطان الغيوم وهي تحجب ضوء الشمس ثم تمتص الرطوبة من الأثير ولا تلبث أن تعصرها طلا أو تنسكب منها وابلا عندما تنوء بحملها، وعشقتُ الرياح عندما تثور عاصفة أو إعصارا وتهز وجه المحيطات موجا هائجا...

كانت صديقتي (نسرين) -التي تعشق الشمس والنور- تسألني دوما مستغربة عن هذا الشغف الكئيب، وكنت دوما أخبرها أن في هذا المشهد هيبة وعظمة من لمسة الخالق؛ لكني في ذلك الصباح تجاوزت بوابة منزلي نحو السيارة، وفجأة أحسست بأشعة الشمس تتسلل إلى خلايا جسدي وتلمس فؤادي فأتنشق الصبح لتتوسع رئتي التي ثقلت من أعباء الهواء الرطب، وتدفئ قلبي الذي برد من هموم الشتاء، ويرتعش عقلي الذي يبس من سكون الأفكار حتى غدا صلدا ثقيلا في تلك الجمجمة الجوفاء ...

ركبت السيارة كالعادة، وكآلة كنت أحفظ الدرب وعند تلك اللفة التي خرجت من زحام الشارع العام إلى طريق فرعي -على جانبيه انسدلت أغصان السدر و احتضنته الجبال بين أكتافها- ابتسم الصباح في عيوني مباشرة سهامَ طاقة وحياة انغرزت في قلبي، فابتسمتُ له....

 تلك الأشعة انطلقت من رحم الشمس خطوطا مستقيمة أو أمواجا -لا فرق- تشع باستمرار حتى في ليل كرتنا الأرضية، تعطي النور للكواكب والأقمار بانعكاسها. أهي حرة؟! أم أنها مقيدة برحم أمها؟؟ أزلية أبدية؟ أم ستنطفئ يوما ما؟

لا أدري ...

تمنيتُ أن أكون مثلها منطلقة، لا عودة لرحم أمي ولا عوائق توقفني، أنعكس أو أنكسر، أغير الزوايا والالتفافات، إلا أني دائما أحلق حرة أعطي وأعطي حتى أنطفأ...

كنت أصغي لأنغام فيروز لكني أطفأت مشغل الموسيقى في سيارتي، احتجت للصمت وتناهى لسمعي ضجيج ممزوج بزقزقة عصافير نسجتْ من أغصان السدر أوطانا لها.

أصغيتُ وأصغيتُ وهُيئ إليّ أن لأشعة الشمس صوتا، سمعته يهمس لي:

"أرأيتِ كلّ السيارات التي تجاوزتك من دون صبر وجعلتك تغيرين المسار وتثورين بعصبية قليلا؟

عند الإشارة الحمراء توقفتم جميعا معا، لم يسبق أحدٌ أحدًا، وعند الضوء الأخضر أسرعوا بجنون ولكن توقفتم مجددا جميعا معا عند الإشارة الحمراء التالية ولم يسبق أحد أحدا، أليس الوقت مجرد اختراع بشري نسبي؟!

 في النهاية ستصلون يا صغيرتي معا. لو كانوا يعلمون"

وتأسفتْ الأشعة على البشر، على طغاة حجبوها عن أسرى وسجناء معتقلين تحت الأرض، حاولتْ بكل قوتها اختراق الطبقات المظلمة ولكن من دون جدوى، حاولت أن تضيء شعلة أطفال ولدوا في الظلام ولم يعرفوا الكلام ولم يُسموا المسميات بأسمائها وربما تعلموا لغة الظلمة والخوف، وأناس ولدوا في النور إلا أن الظلمة ابتلعتهم ونسوا أسماءهم والمُسميات وتوقفوا عن حساب الأيام والوقت....

 أقسمت لي أن بصيصا صغيرا منها كان يتسرب قليلا دون أن يلاحظوه ولم يعط الأمل بيوم جديد لهم لأن وحشية البشر فاقت لطافة الشمس، وعذاب الأسر فاق نشوة حريتها...

 تأسفتْ أشعة الشمس مجددا على كوكب الأرض، إلا أنها عانقتني وقبّلت جلدي و وعدتني بأن شحنتها من النور ستصل كل يوم إلى قلبي، وهمّتْ بالابتعاد عني لكني استوقفتها:

-لا ترحلي!

-اممم!!!

-أريد أن أسمعك

-فهمت...

في رحم أمي الشمس كتلة من جليد مظلم ولدتني، وعندما تنطفئ أمي ستتحول ثقبا أسودا في الفضاء...

الجليد يحرق ويلسع والنار أيضا ...

صغيرتي لا أدري إن كنت تفهمين، بمجرد أن نُخلق فنحن لسنا أحرارا أبدا، وقد يكون غريبا أن أقول لك أن النور والظلام واحد، نعيش في كلتيهما، ولكلٍ منهما طاقة، تعلمي أن تستشعريها وتغربليها وتصطفيها...

-هل تعودين لأمك الشمس أم أنك تتشتتين وتفنين في الفضاء الواسع؟

-أظلّ محلقة، تارة أحنو وتارة أقسو، تارة أنفث نسيما وتارة لهيبا حارقا، لا أفنى، تمتصني المخلوقات أو أتحوّل لطاقة، وتارة يشدني الحنين للعودة إلا أني لا ألتفتُ أبدا، أنت ترين ماضيَّ ومستقبلي يا صديقتي...

-لماذا لا أشعر بالارتباط بمكان أو زمان؟

- لأنك مثلي........


 هذي المرة ابتسمتْ وانطلقتْ دون انتظار لأنّها لا تستطيع التوقف، ابتسمتُ لها ولوحتُ لها وما زال نسيم التفافها يلفح وجهي وأنا بشوق لصباح يوم جديد...

عند الظهيرة لم يعد الصباح خجولا وبات يضرب بسيوف الشمس الحارقة، ولكني سأبقى في الظل أنتظر الصباح التالي بشغف، فلولا الشمس ما كان الظل... ما كان الصباح ...ما كان يوم جديد...

نسرين صديقتي الآن عرفتُ لماذا تحبين الشمس ...

****

نادية محمود العلي